المشهد الثقافي المهجري بين الاحتواء والإقصاء والتكامل – أحمد حضراوي

0
1217

 

هل تعترف دولة بحجم المغرب بفداحة الأزمة الثقافية التي تعيشها جاليتها بأوروبا عامة وبلجيكا خاصة وهي التي تمثل إحدى أكبر الجاليات بها، أم لا تدرك بعد بكل آليتها الخارجية والديبلوماسية حجم الأزمة التي تنضاف إلى أزمات أخرى معقدة، كالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟

لعل الثقافة هي المشروع الحضاري الأعظم الذي يهدف إلى ألا تنحرف الإنسانية عن مسارها نحو القيم والمبادئ والرقي والجمال، فمهمة المثقف الحقيقية هي استخراج أجمل ما فيه وما في الإنسان والكون عبر ذلك الخيط الخفي واللامحسوس ليصبح عنوانا لكل القلوب الراقية الزاهدة في طرقات الواقع الكئيب برتابته وأزقته المتشعبة في متاهات الحزن والألم. وذلك بواسطة خلق منهجية ذاتية قد لا تحتاج في بداية تبلورها عموما إلا إلى مجهود ذاتي، فإن استطاعت أن تخرج من شرنقة الشخصنة وصقلت عبر ممارسة عنيفة من خلال جلد مستمر للأنا، أصبحت “بضاعة” وجب تسويقها وفق معطيات عرض وطلب معينة، وحينها فقط تبدأ عملية التقويم والاستغلال بعدما احتكت بذائقة الغير وربما وافقت أو لم توافق حسابات من يحمل نفس هم المجال أو يحتكره أو يقتات عليه، والأسوأ من ذلك من يعمل على وأده في أول مهده ويحاربه.

والحديث عن الفعل الثقافي يجرنا شئنا أم أبينا إلى المأسسة، فمأسسة المشهد سواء في بلداننا الأم أو هنا بالمهجر كحضور استثنائي لإبداع عربي يتشبث بالحياة في غير تربته الأصلية والحاضنة الطبيعية له، على شح عملية الترجمة التي تجعل من نتاجه موجها إلى وسطيه معا: الوسط المنحدر منه والآخر المنفي فيه. وحين نتحدث عن المأسسة فلا نعني بها إلا تلك الموافقة للغة إبداعه، ولا يمكن الالتفات إلى مؤسسة حاضنة إذا تصدرت الرعاية والاهتمام مؤسسات الدولة التي ننحدر منها سواء كانت من خلال تشريعات تنص صراحة على الوضع الثقافي المهجري أو تعترف به على أقل تقدير، وترسم معالم هيكلة له سواء على المدى القريب أو المدى البعيد، ليضرب جذور هويته في قلب مجتمع متحضر أدرك أهمية الثقافة منذ زمن وسخر لها كل الإمكانيات والسبل لكن من خلال رؤيته هو، وهذا شيء طبيعي ومرغوب فيه وتحصيل حاصل. أو من خلال أجهزة الدولة الرسمية ووزاراتها وهيئاتها وبعثاتها إلى بلد المهجر، وتعيين ملحق ثقافي يسهر على تفعيل المشهد ببلد المهجر، وتوفير مركز ثقافي يعمل وفق استراتيجية واعية بالمرحلة والزمان والمكان والإرث الفكري والإبداعي، يقوم عليه من توفرت فيه شروط موضوعية وذاتية، فلا يسقط في مستنقع التجارب السابقة، التي لم تبؤ فقط بالفشل، بل وجرت على الجالية ويلات ما بعدها ويلات، بحيث يصبح إضافة لا عالة على ميزانية الدولة والمجتمع المدني الذي قد يساهم فيه.

وزارة الثقافة مثلا والتي لأهميتها القصوى يجب تحييدها عن مبدأ الكوتا السياسية أو التحالفات الضيقة، فيفترض أن تسلم لتيقنوقراط تتوفر فيهم الكفاءة وعمق قراءة التحدي العلمي والحضاري، والرؤية.

المؤسسات الرسمية لا تشتغل من فراغ بل تبني تنظيرها وتطبيقها على معطيات وتزحف نحو الساحة من خلال أوراش علمية مدروسة، وخطط وبرامج، غير أنها قد تتفاجأ بجهات مدنية غير رسمية سواء كانت أفرادا أو جماعات، وهنا لكي لا يحصل الصدام أو التنافر، يفترض فيها أن تتسع رقعتها لاحتضان كل المبادرات والإنتاج الثقافي وفق رؤية/ ميثاق يتفَق عليه وفق آليات يحددها قانون تنظيمي، يضمن من جهة الحفاظ على الإسهام الفردي والمدني في الفعل الثقافي الرسمي، ومن جهة أخرى عدم صد الاحتواء التعسفي لروح المبادرة هذه، سواء من طرف مؤسسات الدولة الرسمية ذاتها أو جهات شبه رسمية أو غير رسمية.

نفس الشيء ينطبق على وزارة الهجرة والجالية وما يتفرع عنها من هيئات. أما المجالس التي أنشئت خصيصا للجالية والتي تبلور عملها في المهجر خاصّة، فلا بد من تفعيل دورها أكثر فأكثر من خلال خلق أوراش تواصلية مع أوجه الثقافة المهجرية، ومن خلال إيجاد قنوات لإيصال النتاج المهجري سواء في الخارج عن طريق نشر الكتاب وتكثيف الترجمة وإيجاد قنوات إيصال هذا المنتوج من خلال تنظيم المؤتمرات والملتقيات الثقافية على نطاق أوسع مما هو عليه الشأن الآن، والتعريف به أكثر في البلد الأم حتى تتغير صورة المهاجر لدى الداخل وتتغير النظرة الوقحة إليه، والتي تتلخص في كونه مجرد مورد للعملة الصعبة، ومورد للخوردة على أسطح السيارات العائدة إلى دفء الوطن خلال عطلة “الفاكانسية” الصيفية.

ولضمان تحييد الفساد المالي عن هذا الوسط الراقي، نقترح على الدولة الأم وعلى بلد الإقامة مراجعة الثغرة المالية فيما بخص دعم الجمعيات، وتفعيل مبدأ المحاسبة حتى تهيمن الشفافية على الفعل الثقافي وتتطهر الساحة من الكيانات الوهمية التي لا تمت إلى الثقافة بصلة، والمرتزقة والوصوليين اللاهثين فقط وراء تحقيق الريع، والذين هم بلا شك عائق كبير أمام الجهد الشعبوي الذي يتبناه أبناء الجالية والحاضنون لمشروعهم الحضاري، وقد طرأت على الساحة مافيات تتقنع بالثقافة لتسميم روح التعايش السائدة منذ حوالي نصف قرن، عبر بث خطاب الكراهية الذي يستغل كل المنابر المتاحة بما فيها الخلق والإبداع.

لو تكاثفت كل هذه الأطراف مجتمعة لاستطعنا في وقت قصير تأطير المشهد الثقافي المهجري بشكل جدي وليس بالشكل التعسفي أو العبثي الراهن، ولاستطعنا إخراج رواد من الجالية كل في مجال اهتمامه لخدمة الصالح العام من خلال تفعيل حق المبادرة والإسهام، ولنجحنا بإنعاش الحوار والتفاعل في تقريب الرؤى، ولم لا إلى خلق مجالس وهيئات تحكيم تفض النزاعات حال حدوثها، وترسيخ مبدأ التكامل بدل التنافس والإقصاء، مع الاعتراف بأن أشنع أوجه الإقصاء هو إقصاء الذات، وعدم المثابرة لإثبات أنها مستعدة للعطاء وليس للأخذ فقط!

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here