الشعر العربي يحرس القيم ــ زيد الطهراوي

0
7

لقد اهتم الشعراء بالشعر الذي يحض على مكارم الأخلاق، ووجدوا في الشعر خير معبر عن أهمية الأخلاق في المجتمع، فحسن الخلق قبل كل شيء قربة إلى الله تعالى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقا”.

وقد كتب أحمد شوقي شعرا كثيرا عن الأخلاق فأبدع، ولكنَّ بيتاً واحداً من هذا الشعر الكثير اشتهر أكثر من غيره وأصبح على كل لسان وهو بيته الفريد :

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت == فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ونلاحظ هنا الطباق “بقيت/ذهبوا” وجرس الألفاظ
وهو بهذا البيت يجمع بين الجزالة والحكمة، فخبرة الشاعر في هذه الحياة أوصلته إلى حقيقة خطيرة جدا وهي : أن سوء الخلق مفسدة عظيمة تهدم البلدان والمجتمعات.

وها هو ذا أبو الفتح البستي ينهى عن الاهتمام بالجسد بتزيينه فيكون الاهتمام بالمظهر الخارجي، ولعله يقصد عدم الاهتمام بزينة هذه الحياة الدنيا من مال وعقار، وينصح بالاهتمام بالنفس وتهذيبها وغرس الأخلاق الفاضلة فيها.. فبأخلاقك تسمو في الدنيا والآخرة لا بمظهرك الخارجي يقول شاعرنا :

يا خادمَ الجسم كم تشقـى بِخدمته
أتطلب الربح فيمـا فيـه خُسرانُ

أقْبِلْ على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ

وربما يسأل سائل عن كيفية الوصول إلى الخلق الحسن خاصة إذا كانت هناك خصلة سيئة في النفس كالغضب والعجب والتسرع، وكانت هذه الخصلة متشبثة بالنفس وكأنها عادة، فيأتيه الجواب من الشاعر الحكيم أبي تمام :

فلم أجد الأخلاق إلا تخلقا
ولم أجد الأفضال إلا تفضُلا
فهو يؤكد أن الوصول إلى الخلق الحسن ليس سهلا، ولكن خصال الخير من حلم وتواضع وأناة بحاجة إلى ممارسة وتمرن، فيتعب المرء في البدء ثم يجد مبتغاه بإذن الله.

ولقد غرس الحسد أنيابه في كثير من المجتمعات فأضر بها وبمصالحها وأدى إلى انتشار العداوات والمفاسد العظيمة فيها. فنظم الشعراء أبياتاً تظهر خطورة الحسد ومفاسده، فمما ينسب للإمام الشافعي :

وداريتُ كلَّ النَّاسِ لكنَّ حاسدي
مُداراتُهُ عَزَّتْ وعزَّ مَنالها
وكيف يُداري المرءُ حاسـدَ نعمةٍ
إذا كان لا يُرضيهِ إلّا زوالُها

الحاسد إذن يشهر عداوته ويظهر سوء نيته، ولا مجال للمسالمة إلا إذا زالت النعمة عن خصمه، فكيف يمكن للمرء أن يحيا بأمان مع حاسده وبهذا تضعف العلاقات الأخوية ويضعف المجتمع الإسلامي، والعلاج هو تطهير القلب والسلوك من الحسد، فلقد نهى النبي عن التحاسد والتباغض وعن السلوكيات التي تؤدي إلى كره المسلم لأخيه المسلم، سواء كانت في المعاملة الشخصية أو التجارية.

ويشرح أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني مخاطر الحسد العظيمة التي تعلو على مخاطر الإيذاء والعداوات، وهو بذلك يدخل إلى أعماق النفس البشرية ليؤكد أن الحسد في حقيقته ما هو إلا اعتراض على الله تعالى، فالله حكيم في توزيع النعم على خلقه، والحسد هو تضجر من حصول النعم لهذا العبد، فهو في حقيقته تضجر من فعل الله واعتراض على حكمة الله، فيقول أبو الفرج :

ألا قل لمن كان لي حاسدا == أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله سبحانه == لأنك لم ترض لي ما وهب
فجازاك عني بـأن زادني == وسد عليك وجوه الطلب

وهناك شعراء اهتموا بشعر المديح كثيرا، ومنهم من كان كاذبا في مدحه، ومنهم من يمدح من أجل كسب المال فأثر ذلك على سمعتهم، وقد نهى الإسلام عن المدح سواء كان كلاما عاديا في وجه الممدوح أو كان شعرا، لأن مفاسد المدح عظيمة، فقد يغتر الممدوح بنفسه ويتكبر فيُغضب الله تبارك وتعالى.
أما النجاشي الحارثي فإنه يؤكد على أنه لا يمدح شخصا لا يستحق المدح، وهو بهذا يخرج من دائرة الكذب، ولكنه يبقى في دائرة المدح الذي تُخشى مفاسده، يقول النجاشي الحارثي :

لا تَحْمَدَنَّ امْرَءاً حتَى تُجَرّبَهُ
وَلاَ تَذُمَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُهُ الخَبَرُ
إنّي امْرؤٌ قَلَّمَا أُثَني عَلَى أحَدٍ
حَتَّى أرَى بَعْضَ مَا يَأتِي وَمَا يَذَرُ

وينبغي على من حسُن خلقه أن يسمو على السفهاء فلا ينهمك معهم في الجدال والشتائم، بل يعرض عن إجابتهم بمثل إساءتهم، وكلما ازدادوا سفاهة وغضباً وعنفاً ازداد هو حِلماً، ويشبه الشافعي نفسه بعود الطيب الذي ينشر رائحته العبقة أكثر كلما احترق أكثر..
فمما ينسب للإمام الشافعي :
يخاطبني السفيه بكل قبـح == فــأكــره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهــة فأزيد حلمــــا == كعــود زاده الإحــراق طيبا

وقول الشافعي هنا : “يزيد سفاهة فأزيد حلماً” فيه مقابلة بديعة وهذا يدل على بلاغته.
أما الرفق فهو من أحسن الأخلاق التي تنبت في سلوك المسلم وهو ضد العنف، ويوضح أبو العتاهية محاسن الرفق بأنه يأتي بالمصالح العظيمة التي لا يأتي بها العنف و الحمق، فيقول :

الرّفْقُ يَبلُغُ ما لا يَبلُغُ الخَرَقُ
وقلَّ في الناسِ منْ يصفُو لهُ خُلُقُ

ويمدح زهير بن أبي سلمى الصدق الذي هو من أخص صفات المؤمن الحق، ويذم الكذب الذي هو من أخص صفات المنافق فيقول :

ما أحسنَ الصدق في الدنيا لقائله
وأقبحَ الكذبِ عند الله والناسِ

ويعلن حاتم الطائي براءته من صفة الشتم التي هي فسوق، و يبرأ كذلك من صفة إخلاف الوعد التي هي من صفات المنافق فيقول :

وما من شيمتي شتم ابن عمي
وما أنا مخلف من يرتجيني

وهو يؤكد على أن الكرم من أسباب السيادة فيقول :

يقولون لي: أهلكتَ مالَكَ فاقتصدْ == وما كنتُ، لولا ما يقولون سيّدا

ويذم الحكيم بن قنبر من لا يصلح عيب نفسه، وينشغل بعيوب الناس فيقول :

وَمَطرُوفَةٌ عَيْنَاهُ عَنْ عَيْبِ نَفْسِهِ == وَلَوْ بَانَ عَيْبٌ مِنْ أَخِيهِ لَأَبْصَرَا
وقال أحد الشعراء :
وَلَوْ كَانَ ذَا الْإِنْسَانُ يُنْصِفُ نَفْسَهُ == لَأَمْسَكَ عَنْ عَيْبِ الصَّدِيقِ وَقَصَّرَا
ويذم إيليا أبو ماضي الكبر الذي هو من أسوء الأخلاق ببيت بليغ فيقول :

يا أَخي لا تَمِل بِوَجهِكَ عَنّي
ما أَنا فَحمَة وَلا أَنتَ فَرقَد

وهكذا يُدافع الشعر عن نفسه واضعاً اهتمام الشعراء بالأخلاق وحضهم عليها، وتوضيح محاسنها أمام المهتمين ليؤكد أن الشعر فنٌّ وحكمةٌ ومواعظ بليغة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here