تمر أحداث كثيرة دون أن نوليها الاهتمام الذي تستحق. قد تكون مثيرة في بعضها وغريبة في أطوارها. تقع.. ونحن منشغلون عنها وأحيانا غير مبالين، حساباتنا مهولة في كل شيء. هل تحول الإنسان بالفعل إلى حيوان يَحْسِبُ أكثر مما يُفَكِر ككائن؟ هل أصبحنا بالضرورة أمام منطق عصر أصبح فيه المال هو السيد والإنسان هو العبد؟ فلكل حكاية مملكتها.. ولكل مملكة حكاياتها..
ذات صباح ربيعي جميل، توجهت إلى المقاطعة من أجل قضاء غرض إداري. اليوم يوم اثنين، يصادف السوق الأسبوعي للمدينة، تكون فيه الحركة على أشدها، الشوارع مملوءة عن آخرها بالعربات المجرورة، تتعاطى النساء كثيرا لهذا النقل التقليدي لثمنه البخس، يغطي اللون الأزرق لسيارات الأجرة شوارع المدينة، يجر الأطفال أرجلهم متوجهين إلى مدارسهم، المقاهي تستقبل زبناءها لتناول وجبة الفطور. عادات كثيرة انقرضت وحلت محلها عادات جديدة، ما يميزها أنها ما زالت تحافظ على طابعها القروي المحض رغم كل وسائل التمدن التي تحيط بها.
تجد الإدارة نفسها مرهونة بهذا الطقس اليومي المتوارث، يستغل السكان القرويون هذا اليوم للتسوق في الصباح الباكر تم التوجه مباشرة إلى الإدارة لقضاء الغرض والعودة مبكرا إلى حال سبيلهم غانمين سالمين.
على باب المقاطعة وجدت طابورا من المواطنين ينتظرون، يتهامسون. فهمت بعد ذلك أن الأمر متعلق بتوقيع الوثائق، فالأعضاء المنتخبون “المحترمون” الذين يتقاضون تعويضا عن مهام التوقيع لا يزورون “مواقعهم الحربية” إلا عندما يكون لهم غرض شخصي أو لأحد المقربين منهم. وهم بذلك يتركون مشقة الإمضاء وخطورته يتحملها الموظف الصغير. الحائط القصير في لعبة حقيرة اسمها الديمقراطية الترابية.
لم يدم الوقت طويلا، تقدم أحد الموظفين يطلب من المواطنين الهدوء واحترام الدور. الخصلة الوحيدة المنعدمة في جل الإدارات المغربية. فهي في الأول والأخير ثقافة تعطينا مؤشرا واضحا لمدى تقدمنا أو تخلفنا.
القاعة مملوءة عن آخرها، ساعة حائطية متوقفة. أغلب من حضر ظلوا واقفين، ساهمت عطلة لمدة يومين في ارتفاع الطلبات الإدارية وتزايد أعداد الوافدين. يدخل أحد وجهاء المدينة مرحب به أكثر من اللازم، يقضي أغراضه وينصرف. من منا من لم يبحث عن صديق أو قريب ليسهل مأموريته؟ معضلتنا نحن المغاربة أننا جميعا نبحث عن حل فردي وليس عن حل جماعي لمشاكلنا المتعددة همس أحد المواطنين لرفيقه.
الإدارة في المدن الصغيرة لها طعم خاص. الناس يتصافحون فيما بينهم كأنهم يلتقون أول مرة في حياتهم. يتبادلون الآراء والمعلومات، ويناقشون كل صغيرة وكبيرة. فئة تتحدث عن حرث الأرض وزرعها، شح السماء، تعقد المساطر الإدارية.
آخرون يتحدثون عن ضعف الحكومة وضعف بعض الوزراء. هناك من المواطنين من بدأ يسخر من ذلك قائلا لهم: يمكنك الحصول على منصب وزير في رمشة عين على أن تحصل على منصب معلم ولو بالمناطق النائية. وهو ما جعل ثلة من المحيطين به يتبادلون النظرات ويتفحصونه بنوع من الريبة. مجموعة أخرى كان موضوعها المفضل هو كثرة الانتحارات التي هزت المدينة، ثلاث حالات خلال شهروا حد، كان ضمنهم رجل أمن، الموضوع أصبح فعلا يستحق وقفة تأمل قال أحدهم.
أخوان يتشاجران كل واحد يتهم الآخر بالسطو على أرضه. علمت من أحد الحاضرين أن والدهما كانت له أربع زوجات، ترك لهم ثروة كبيرة وأراض شاسعة بضواحي المدينة. ومنذ وفاته دخل الإخوة في صراع مرير وصل إلى التهديد بالقتل. لعنة الله على المال وما يفعل بالدم وبالإخوة في هذا الزمن يقول أحد الواقفين كان يتابع باهتمام ما كان يحكيه الرجل.
جلست امرأة مصقولة الجسد على مقربة مني، بشرتها بيضاء، عيناها لامعتان، تضع وشما على جبهتها، يرافقها رجل طويل، وجهه يفيض حمرة، نظراته قاسية، تجاوز الستين من العمر. يقف مائلا، من لباسه وحديثه يعطيك الانطباع أنه رجل قروي، يحمل كيسا بلاستيكيا أسود، ينظر هنا وهناك كأنه يبحث عن شيء ما، ابتسم في وجهي بصعوبة وقال لي بدون لباقة: هل تساعدني على إيجاد رسم الزواج؟ بعد أن أخرج رزمة من الأوراق من ذلك الكيس. فتشت بينها أكثر من مرة، فلم أعثر على ما يطلب، وسألته هل أنت متأكد أن رسم الزواج يوجد بين الأوراق؟ التفت نحو المرأة التي غيرت المكان واقتربت مني وبصوت خافت مهزوز قالت لي: الورقة التي تبحث عنها ليست رسما عدليا بالشكل المتعارف عليه مند عرف الناس الزواج، هذه يا ولدي تضيف وبنوع من الحرقة كارثة أصبتني أنا وابنتي الواقفة أمامك.
اندهشت من جواب المرأة، الحامل لأكثر من وجه، وقلت لها: عن أي كارثة تتحدثين سيدتي؟ أنا لم نفهم ماذا تقصدين “أنا وابنتي”؟ وما علاقة بُنِيَتكِ بهذا الخليط من الأوراق؟ فردت وكأنها تريد أن تبكي؟ إنها صاحبة الجرح الحقيقي يا ولدي في هذه اللعبة القذرة.. لوح لي الموظف بيده للدخول وكان صديقا لي أيام الدراسة، سلمت الرجل أوراقه، لكن كلمات المرأة كانت كالرصاص تحفر في قلبي دون توقف..
وأنا أهم بالمغادرة، باغتني صديقي الموظف بالقول: رأيتك تتحدث مع المرأة وعينك على الفتاة.. قلت له فعلا إنها جميلة وذات عينين زرقاوتين ولكنها مازالت صغيرة.. فضحك وقال لي: أنت هو الصغير أيها المغفل. تلك الوردة الجميلة ثالث مرة تزورنا هنا في المقاطعة من أجل الطلاق. وما دخلكم أنتم بالطلاق؟ فهل تحولت المقاطعة إلى محكمة وأنا لا أدري؟ سألته بسخرية..
بالفعل لقد أصبت، يجيب ويزيد قائلا: لقد تحولنا منذ مدة طويلة إلى محكمة متخصصة. فكل يوم نستقبل على الأقل أربع حالات للطلاق، فيما أصبح يعرف “بزواج الكونترا” الذي اشتهرت به مدينتنا العزيزة، فكل من يريد تحقيق متعة سريعة وقضاء مصلحة أو غرض شخصي يلجأ إلى عقد يتفق فيه الطرفان على كل شيء ويمكن فسخه في أي وقت شاء، بعيدا عن مؤسسة الزواج بأصولها المشهورة ولكن المال هوا لجامع والمحرك لهذا العقد الغريب على بيئتنا الإسلامية وهي ظاهرة فريدة وخطيرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
والفتاة هي ضحية من ضحايا هذا الزواج المصطنع. والذي لا يمت لا للشرع ولا لأخلاق الزواج المتعارف عليها بصلة. فهذه الفتاة التي أمام عينيك لا يتعدى عمرها الآن خمسة عشر عاما. تزوجت منذ سنتين بذلك الرجل الذي يرافقها وهو أكبر من أبيها، الذي كان يشتغل عنده خماسا. استغل سفر زوجته عند أهلها بإحدى المدن الجبلية، فزوجه البنت مقابل أن يسلمه جزءا من الأرض، لحرثها والاستفادة من غلتها زيادة على مبلغ مالي يصل إلى مليون سنتيم. بعد عودة الأم من السفر يحكي صديقي بكت بحرقة واعتبرت الزواج بمثابة صفقة تجارية بين زوجها الذي وصفته “بالشماتة” وبين صاحب الضيعة الذي استعمل الفتاة للمتعة والسخرة لزوجتيه اللتين استغلتا الفتاة استغلالا فاحشا في كل الأعمال الشاقة حتى سقطت الفتاة بانهيار عصبي، وأصبحت عالة على ضُرَتَيْهَا فطلبتا من الزوج أن يطلقها بفسخ العقد المبرم لأنها لم تَعُدْ تَصْلُحُ لشيء .
وأنا أغادر القاعة، نَظَرَتْ إلي الفتاة نظرة غريبة وهي تبتسِم.. أنْبَأَتْنيِ هذه الابتسامة أنها كانت تنظر بثقة إلى المستقبل..
بالصدفة وفي ليلة من ليالي فصل الصيف، بمدينة سياحية، لمحتها وهي ترقص على نغمات شرقية بملابس شبه عارية بملهى ليلي.