نعيش ظروفاً سياسية واجتماعية واقتصادية سيئة تسارع من شيخوختنا شكلاً وروحاً، نحاول أن نحافظ على انتعاش ما تبقى من أرواحنا المتعبة؛ فقد نستطيع أن نقاوم هذه الظروف القاهرة التي تداهمنا بين حين وآخر، فمن أمراض إلى حروب إلى زلازل إلى تشرد إلى جوع؛ سلسلة من الفواجع التي لا نهاية لها، كوابيس ليلية لا تنتهي ببزوغ شمس نهار جديد.
قد يضطرنا الأمر إلى متابعة العديد من حلقات التنمية البشرية، ظنّاً منا بأنها قد تساهم في القضاء على السنين الإضافية التي أثقلت أرواحنا المرهقة، أو بأنها ستجلب الراحة لنا ولو لفترات ضئيلة من الزمن. قد نتحايل على أنفسنا في سبيل المحافظة على شباب هذه الروح المتعبة بزيارة بعض الأماكن التي يرتادها من يصغروننا عمراً؛ كدور السينما، وبعض المولات، والمحلات المختصة ببيع لوازم الشباب. اعتقاداً منا بأنها قد تكون ناجعة في تحقيق ذلك الهدف.
اعتماداً على هذا المعتقد، قررت أن يكون لي اليوم زيارة إلى مول وست فيلد في سكوكي – إحدى ضواحي شيكاغو – بعد أن أفرغ من إنجاز أعمالي اليومية التي لا تنتهي.
شارع أولد آرتشرد المؤدي إلى المول كان مزدحماً بالسيارات، كعادتي دوماً، أخطأت في اختيار الوقت المناسب للذهاب؛ فالساعة الخامسة مساء هو وقت الازدحام بالسيارات؛ حيث ينتهي الجميع من عمله ويتوجه إلى بيته.
لم يزعجني الأمر كثيراً؛ فقد قضيت الوقت في مراقبة تصرفات وسلوك السائقين وهم في قمة توترهم الذي يتحول فيما بعد إلى أنانية مقيتة، لا تعطي الحق لغيرها بأولوية المرور.
في المول، تاهت خطواتي، ليس هناك مكان محدد أرغب في التوجه إليه، كل ما كان يدور في ذهني أن أشارك عمر الشباب مقتنياته وتوجهاته؛ علّني أقلّص بعض السنوات التي أضافتها إرهاقات الحياة إلى روحي.
تنقلت في ساحات المول المختلفة، أمتع نظري بفن العمارة الذي يميز مبنى عن الآخر، الساحات مليئة بالزهور ذات الألوان والأصناف المتعددة، النوافير تتوزع بين الأماكن، تفتقر إلى الماء من فوهاتها، فهي مجدولة للعمل في فصل الصيف، المحلات التجارية تتوزع في جميع الاتجاهات، يتميز هذا المول عن غيره بإطلالته على السماء، فهو غير مسقوف كبقية المولات الأخرى، مما يعطي الزائر الشعور بالانتعاش بنسمات الهواء العليلة.
دخلت إلى أول محل صادفته، وقد كان الأكثر مناسبة لمرادي؛ أشهر محل لبيع أدوات التجميل، وهو الأكثر ارتياداً من الشابات والشباب، حيث أرقى الماركات العالمية، المكان كان مزدحماً جدّاً بحيث أن خطواتي التائهة ازدادت تيهاً، فأنا لست بصدد شراء غرضٍ بعينه. كنت أتنقل من خلال أية مساحة فارغة أجدها، لم يكن تنقلي بين الممرات منظماً، حتى نظراتي كانت تتنقل بعشوائية بين المنتجات.
المتجر يمتلئ بكل أنواع العطور ومساحيق التجميل، هناك رفوف خاصة بأحمر الشفاه وأخرى بأقلام كحل العين المختلفة الألوان، الماسكارا بأنواعها، أحمر الخدود. عانيت كثيراً بالتنقل من قسم إلى آخر بسبب الازدحام الشديد.
لم أشعر بالتوتر وغربة المكان، فقد صادفت العديد من السيدات في عمري ممن يشعرن بمتعة التسوق والاقتناء، يبدو أنهن عزمن على إسقاط بعضٍ من سنين عمرهن كما فعلت!
كنت أراقب انبهار الشابات والشباب، ووجوههم التي غطتها الألوان المتعددة وطبقات البودرة الكثيفة التي ذهبت بملامحهم. أثارت انتباهي الرموش الغزيرة الطويلة المبالغ بها والمضحكة أحياناً.
أسعار المنتوجات باهظة جدّاً، ليس لأنها مصنوعة من مواد مميزة، بل لأنها تحمل أسماء ماركات عالمية.
كما أنها مرهقة لجيوب شباب ما زالوا في مقتبل العمر.
عدت أدراجي من حيث أتيت وفي جعبتي أثقال سنين إضافية؛
ففي مصنع الجمال، لم أجد سوى طمسٍ للجمال، ومحوٍ لبراءة الطفولة، وإرهاقٍ للوجوه الرقيقة.
كيف للجمال أن يتجلّى في أقنعة زائفة، وأموال مهدورة؟!
غداً سيكون أجمل بإذن الله!