تجتاحني أحاسيس مضطربة كاضطراب سماء الخريف، أبحث في ذاكرة قلبي عن نقطة استراحة، عن لحظة تحييني فلا أجد، كل المحطات متشابهة، تتزاحم فيها زفرات القلوب، بعد جلوسي على مقعدي وضعت سماعة الهاتف في أذني، هي عادة تجعلني أنعم بالراحة بعيدا عن فضول بعد الركاب وثرثرة البعض الآخر، تعودت السفر حتى صار لي روتين خاص أتبعه في كل رحلة، أضع السماعة ثم أبدأ قراءة كتابا أو أقرأ من الهاتف، أنسى الزمان والمكان وأسافر مع كتابي حيث تحملني الأحداث، أفر من حزني إلى حزن الآخرين وألبس ثوب سعادة الشخوص، وأسرق ذكرياتهم الجميلة، وأتناسى للحظات من رحلوا وتركوني خلفهم.. في كل رحلة رحيل وفي كل رحيل ألم فراق يجدد الذي سبقه، رحل الجميع.. كل من أحببتهم رحلوا حتى صرت أخشى أن أحب، رحل الأب ثم الأم ثم الجدة ثم الجد ثم ثم.. حلقات مسلسل الرحيل مرعبة مؤلمة قلت لشيخ بعد رحيل أحد الأحبة: صرت كسنبلة وسط حقل حصدت كل سنابله. فرد علي مطمئنا: “فقد ذكرت سلمك الله أنك “كسنبلة وحيدة غريبة في حقل فسيح خطف الموت كل سنابله، “فهو التشبيه الذي شبه به النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ِ: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء، والفاجر كالأرزة، صماء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء». فانظري كيف شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالخامة تكفأ بالريح فإذا اعتدلت كفئت ثانية كما يكفأ المؤمن بالبلاء. ثم سألته: هل ينقص حزني من إيماني؟ فرد حفظه الله: “أما ما يعتريك من حزن أو ألم أو ما شابه وهو ما أقلقك وأثار هواجسك وشكوكك فهو أمر طبيعي للمؤمن في هذه الدنيا، ولضيق المقام سأنقل لك شيئا يسيرا عن واحد من رؤوس العلماء وأئمة الإسلام، وأعلمهم بطريق الجنة وهو الإمام الحسن البصري، فقد كان لا يفارقه الحزن. قال إبراهيم بن عيسى اليشكري: ما رأيت أحدا أطول حزنا من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة كما في سير أعلام النبلاء (4/ 575)، وقال: يا ابن آدم، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به، ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك” كما في الزهد لأحمد 259 والحلية 2 / 133، 134 .وهذا سلمك الله لا يعارض الرضا بالله ولا لذة السعادة التي هي لحظات للقلب ثم تذهب.
“شعرت بارتياح حين أخبرني الشيخ أن حزني الذي أضعف أمامه أمر طبيعي لا يتعارض مع الايمان، فاللهم لا اعتراض.
أحاول بعد كل حزن لملمة جرحي والوقوف أمام عواصف الحياة ولو بقلب منكسر وعيون دامعة، ولم أجد التفهم ولا العزاء فيمن حولي. فالصديقة تراني حين تحتاج لصدر يشاركها حزنها، فقد علمني الحزن فن تضميد جراح الغير، وتنساني حين تكون سعيدة.. وغير الأصدقاء يبحث عمن تسعده لا من يسعدها لتسعده، بل ويستهجن البعض أن أكون بقلب رجل في المصاعب، ويتناسون أن من عاشت مسلسل الرحيل تعلمت أن تعتمد على نفسها في الحياة، أن تقضي الأيام لا تسمع غير صوت تلفاز أو حاسوب أو مذياع.. تجد نفسها أحيانا تكلم نفسها فتسخر معلقة: “لا ينقصك غير الجنون” ! لتعود لصمتها.. تناجي ربها فوحده يفهمها، تراقص الألوان وتكتب نفسها.. تسجن حزنها في قمقم الكلمات لتحرر حمائم الجمال فيها.. تحاول أن تبتعد عن الآخرين خوفا من أن تحب أحدهم فيرحل وتتجرع مرارة الفقد من جديد، وينضاف الخذلان لحلقات الرحيل..
توقفت الحافلة في محطة الوصول، تنهدت وأنا أعيد الكتاب إلى محفظتي غاضبة منه لأنه لم ينجح في منعي من التفكير في نفسي.