رواية “في شراك أحمد بخيت” في حلقات
الرحلة الأولى – الفصل الأول
-1-
مصر هبة النيل، هكذا تحدث هيرودوت عن هذا البلد العظيم الذي يغري كل من قلّب صفحات التاريخ والإنسان بزيارته ولو لمرة واحدة في العمر، بلد لم يزل يضع الصخر الذي صاغ أهراماته ومعالمه عنوانا لضفاف مائه المتسلق من الجنوب، عكس دموع أشقيائه التي تنحدر دائما من أعلى الخد إلى أسفله. لم أكن أعلم أن قلوب من سأصادف في هذا البلد للأسف أو معظمهم كقلوب فراعنة كانت أشد قسوة من الصخر الذي شيدت به هذه الأهرامات.
كانت بروكسل وما زالت مدينة يحاصرها الكثير من الغيم القاتم الذي يعكس لونه ليس فقط في الحياة اليومية المرهقة، بل تنفذ أيضا في نفوس ورؤى المثقفين بها وأقصد هنا المثقفين المغاربة، وخاصة منهم من يطلقون على أنفسهم: الشعراء. منذ ١٩٩٧ وأنا أقيم ببلجيكا حتى نخرت الغربة عظامي نخرا، دائما في صراع مع الحبر والورق، أُثقلهما بهموم أفكاري وكتاباتي حتى لأكاد أسمع صوت استغــاثتهم: إرحمنا فقد صببت علينا من الشعر ما ضاقت به الرفوف ولا نراك تريد أن تفتح منفذا لإلقائنا خارج حجرتك يوما! طوال سنين المهجر لم أخبر حتى أعز أصدقائي وأقرب أقربائي أني أكتب شعرا، عكس المتشدقين الذي يفضحون العالم أن اقرأوا لنا ولو عنوة.
وجدتني خلال رحلة عودتي إلى بيتي بالقطار بعد يوم متعب من العمل، جالسا أمام شخص عليه ملامح عربية، استفزني بابتسامته المتكتمة، علمت منه أنه روائي كبير وشاعر كبير وناقد متمكن و ناشط ثقافي، جمع كل ألقاب الأدب لأكتشف حين تذكرت أن أقرأ له بعدها، أنه يحتاج إلى٣٠ سنة أخرى لكتابة نص يحترم ذائقة ومستوى القارئ العربي. من حسن الحظ كنت أصطحب معي يومها حاسوبي فأطلعته بسرعة على بعض كتاباتي لما طلب مني ذلك، فقد كان مضطرا للنزول بمحطة مدينته والتي لا تستغرق مدة الوصول إليها من بروكسل إلا حوالي الربع ساعة. قرأت على وجهه علامات الاستغراب من كتاباتي التي أول ما لاحظ عليها كغيره، التزامها بأصول الشعر العربي القديم وزنا وقافية، تبادلنا أرقام الهواتف بسرعة مؤكدا على ضرورة حضوري إلى صالونه الأدبي الأربعاء الذي يليه حاشيا أذني بأسماء أدبية استحضرها وكأنه يحاول إقناعي بأهميتها، لكني أحسست بخيبة أمله في وإحباطه عندما أدرك أني لا أعرف أيا منها. صافحني بحرارة وهو يهم بالنزول وكأنه وجد ضالته أو ربما فريسته!
مرت بضعة أيام كعادة أيام بلجيكا الروتينية بسرعة وملل من البيت إلى العمل ومن العمل إلى البيت، ليحل يوم الأربعاء الأخير من الشهر، موعد صالون بروكسل الأدبي. كنّا قبلها منذ عقد من الزمن ونيف بالمغرب وخصوصا بمدينتي وجدة نسميها أمسيات شعرية، أصبحت الآن الموضة الجديدة هي موضة الصالونات وكأنها تيمّن بصالون مي زيادة مع فارق القامات والمشاركين فيه. اعتقدت لأول وهلة من “اسم” الصالون أنه سيكون مقرا طويلا عريضا يتسع لحضور حاشد، لأصطدم بواقع قاعة متواضعة جدا، ضيقة جدا، باردة جدا، لكنها على بساطتها جعلتني أحس بحفاوة الترحاب بي من طرف من اشرأبت أعناقهم ولو تطفلا للتعرف عن قرب على هذا الزائر الجديد الغريب. أمسية متواضعة بكل المقاييس سواء بأداء “الشعراء” أو قلة حضور الجمهور، لكني كنت منشرح الصدر إذ وجدتني في جو أدبي إبداعي لكم كنت مشتاقا إليه.
بدؤوا في إلقاء القصائد، كانت كلها نثرية حتى أتى دوري، تعمدت أن ألقي عليهم قصيدة مختلفة الطابع مثلما كنت أفعل منذ زمن في الأمسيات الشعرية لتسجيل حضوري منذ اللحظة الأولى، كنت أحاول أن أبقى منسجما مع عزف العود الرائع الذي كان يعزفه أحدهم وإن كنت منزعجا من ذلك، فمن عادتي الإلقاء حينما تسنح لي الفرصة بذلك في صمت القاعة وعزف كلماتي لا غير. أحسست وكأن على رؤوسهم الطير وأنا أقرأ قصيدتي “غزل في زمن الصهيونية والأمريكان” التي كتبتها سنة ١٩٩٦ ردا على قصيدة لنزار قباني أعتقد أنّ عنوانها كان “حب ٩٤”، مات نزار ولم يقرأ قصيدتي. تابعت قراءة القصيدة المطولة وما كان إعجاب الجمهور والشعراء ليخفى عني، تابعني صاحبنا صاحب الدعوة بابتسامته تلك، وتابعتني هي بحماسها المفرط إليّ وتململها على كرسيها كلما مررت بمقطع أعجبها، صرخت وهي تصفق لي واقفة عندما انتهيت من الإلقاء: “لقد أنصفت المرأة”، رغم أن مغزى القصيدة لم يكن كذلك، شكرتها مبتسما ولزمت مقعدي.
انتهت الأمسية، ثم ابتدأت المجموعات الصغيرة تتشكل مع تناول الشاي وبعض الحلوى المغربية، نتبادل الحديث نتبادل أرقام الهواتف، نتعارف أكثر، نتحدث عن تجاربنا الكتابية، نتبادل الإعجابات والملاحظات. اختصرت المسافات بيننا وتجاوزت الحضور لتقترب مني باندفاعها وابتسامتها لتحييني وتصافحني هذه المرة، كنت قد تعرفت على اسمها حينما قدمها منسق الندوة لإلقاء “قصيدتها”: “ن.ي”، مغربية متزوجة حينها من عاطل وأم، مقيمة ببروكسل. كررت إعجابها بي مرة ثانية ورحبت بي مرة أخرى كعضو جديد ضمن أسرة شعراء بروكسل، وتمنت علي أن نلتقي مرة أخرى ضمن فعاليات الصالون، لكن هذه المرة بعد عودتها من مصر، حيث أن طائرتها ستقلع بها إليها صباح اليوم التالي لتستلم ديوانها الأوّل من هناك والذي أنجزته في دار كليم، التي يديرها الشاعر المصري المعروف أحمد بخيت. لم يثرنِ اسم الدار بقدر ما أثارتني كلمة “ديوان”، ولم يثرن اسم أحمد بخيت رغم أني كنت متأكدا أني قد سمعت هذا الإسم من قبل، بقدر ما أثارني اسم “مصر” ومشاهدتي الحية لشاعرة مغربية ستستلم ديوانها من هذا البلد الكبير، بلد أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والعقاد. كان ذلك بالنسبة لي نجاحا ما بعده نجاح، ثلاث حروف كان إيقاعها في أذني أعذب من سيمفونية كاملة.