رواية “في شراك أحمد بخيت” في حلقات
الرحلة الأولى – الفصل الثالث
(3)
ظهيرة اليوم التالي، وبعدما غيرتُ رأيي وأرغمت نفسي على قراءته قراءة ثانية، اتصلتُ بها هاتفيا لأخبرها أني قد وفيت بعهدها وقرأت الديوان كاملا، بل وأعدت قراءته بتركيز وتمعن. سألتني عن معظم قصائد الديوان مركزة على قصيدة بعينها، كانت بالنسبة إليها قصيدة الديوان المحورية وكانت بالنسبة لي حبرا ضائعا على ورق جاف. بدأت أقرأ لها ما بين سطور قصيدتها تلك وأشرح لها ظروف كتابتها لها مستخلصا جوانب من نفسيتها ومزاجها حينها أو بصفة عامة، استغربت من دقة قراءتي لنصها الذي اعتقدت أن رمزيته وإيحاءاته لا يمكن أن تكشف كل ما دارته، صرخت في أذني نفس صرختها يوم الندوة وأصرت على لقائي.
كان لقاء تفوح منه رائحة الشعر ونظريات التدوين النقد وجدية القراءة والرؤية، يترنح بين استغرابها وبين حماسها الزائد لي وإعجابها “بقدراتي”، و”دقة تحليلي” لما اعتقدت أنه سر بينها وبين سطورها. أدركت بعدها أن الشعر بالنسبة لي نعمة أنعم الله بها عليّ لا أبذل جهدا لا في كتابته ولا في قراءته، ونادرا ما يستعصي علي فهمه. تجاذبنا صداقات الفايسبوك فاقترحت علي أن أطلب صداقات مجموعة أسماء مصرية قدمتهم لي على أنهم أهل الحل والعقد في مجال القصيدة العربية منذ شعراء الصعاليك.
لم يكن الفايسبوك يستهويني كثيرا لأني كنت أعتبره مضيعة للوقت، وبابا من أبواب الشر ووسيلة لمعاكسة الفتيات لا غير، فمعظم حكايات أصدقائي الغرامية كانت تدور حول هذا الموقع وكيف يستغلونه وغيره من الشبكات الاجتماعية للإيقاع بالحسناوات. لكن مع اندلاع ثورات الربيع العربي وإدراكي لأهمية دوره في إضرام فتيلها، قررت أن أفتح حسابا. طلبت صداقة من أشارت علي بهم، اكتشفت من بينهم فعلا أقلاما رائعة متمكنة من القريض، لكن معظم الشعراء الآخرين كانوا إما هواة أو شعراء عامية أدركت من خلال اطلاعي على كتاباتهم أني لن أستفيد من تجاربهم الكثير.
وجدت حساب مصمم الأغلفة، طلبت صداقته فما تأخر علي بقبولها، أحسست بإحساس أبوي غريب من أول حرف دردشة معه، فهو رجل يشعرك برقي أخلاقي ومستوى عال من الحوار مما شوقني إلى رؤيته، فقد وضعته على رأس قائمة الأشخاص الذين أتمنى لقاءهم في مصر إن زرتها يوما. كما عثرت على حساب الشاعر صاحب الدار التي نشرت لشاعرتنا، اطلعت على كتاباته فوجدتها في مستوى متميز بحق، انكببت على القراءة له وتمنيت لقاءه أيضا، بعدما كان أحمد مطر هو الشاعر الوحيد الذي كنت أتمنى أن ألتقي به في حياتي.
توالت صالونات بروكسل، وتوالى الاحتكاك بالشعراء من خلالها، وتبلورت الأفكار والقناعات. ابتدرتني (شاعرتنا) باقتراح تأسيس رابطة أدبية بشرط أن تكون هي رئيستها، رحبت بالفكرة رغم استغرابي للشرط، متعللا أن صاحبة الفكرة أولى بها. فقد أصرت على تواجدي معها لأنها اعتبرتني “كنزا أدبيا”، فهي لم تصادف في حياتها شاعرا لم يكمل الأربعين من عمره، ومكتبته تضم أكثر من٣٥ ديوانا حينها. أصرت على مساعدتي بأخذ نسخ من دواويني إلى مصر وعرضها على أصدقاء لها هناك ليقوموا بنشرها، اكتشفت في آخر المطاف أنهم “شلة نصابين وحرامية” كما يقال باللهجة المصرية، كان الأمر إنذارا لي لكني لم أستشعره حينها.
وتتوالى الأيام، وتحبل الوعود لتطرح أعذارا، ولا ديوان صدر لي بمصر ولا حتى ما يبشر بقرب صدوره، ويبتدئ حماس شاعرتنا في الفتور، لأكتشف فيما بعد أنها كانت تعدني بالشيء وتفعل نقيضه، فقد بدأ مرض الغيرة من كتاباتي يدبُّ إلى قلبها، وبدأ اهتمام الشعراء والمهتمين بالشعر بكتــابــاتي يسبب لهــا بعض الإزعــاج في مصر، وأنا في غفلة من أمري لا علم لي بتبدل أحوال الناس وقلوبهم. عندما وجدت رقم هاتف من كان من المفترض أن يطبع لي ديواني بمدينة المنصورة بمصر “محمود.س.إ” واتصلت به، أخبرني أن شاعرتنا قد نقلت إليه بأني لم أعد راغبا في نشر شيء. عندما أبديت له استغرابي من الأمر استغرب لاستغرابي، لأدخل في دوامة أخرى من الوعود معه، لم تؤدّ بعد أشهر بي إلا إلى المزيد من الإحباط.
تذمرت من حظي السيء، وانعزلت كدأبي عندما أُجـرح من ذوي القربى وهم هنـا الشعراء، ومع حلول العطلة الصيفية وأنا بمدينة وجدة مدينتي التي أحبها، ارتأيت أن أطبع ديوانا لدى نفس الناشر الذي أصدر لي ديواني الأول والثاني. كان لا بد أن أتعلم من دروسي السابقة معه لكني خدعت نفسي لألدغ بسمه مرة ثالثة، فقد كنت كما يقول المثل الفرنسي مغفلا، ومغفلا سأبقى.
أخذت ديواني “محطات” الذي كنت قد كتبته منذ أكثر من ١٤سنة، والذي كنت أنتوي إصداره في شكل سلسلة مرقمة بعد محاولتي الأولى من إصدار سلسلة دواوين “شذرات” والتي لم أصدر منها إلا العدد الأول، أخذته منقحا بعض الشيء ومضيفا إليــه بعدمــا غـيرت عنوانه إلى: “شـيء من المنفـى”، واتجهت إلى حي القدس عند صديقي لحسن الذي لم يتغير ولم يتبــدل، قابلــني بابتسامته المفرطة وحفــاوته المعتــادة وترحابه الدافئ، قدم لي إنجازات داره فلمست فيها تطورا كبيرا مقارنة مع ديواني السابقين واللذين أصدرهما لي سنة ١٩٩٦، كان غلافهما وتنسيقهما أعلى من ورق التواليت بنصف درجة. اتفقنا على تنسيق الديوان وغلافه وعدد النسخ والتكاليف، شرحت له ظروفي وضيق وقتي وضرورة استلامي الكتاب قبل شهر، طمأنني بأنه سيكون جاهزا قبل ثلاثة أسابيع على الأكثر، أحسست بفرحة غامرة فأنا سأمسك بين يدي أخيرا ديوانا جميلا أفخر بتقديمه هدية لأصدقائي.
مرت الثلاثة أسابيع ومر الشهر، والديوان لم يصدر، كانت الأعذار والتبريرات تخرج من فم صاحبنا كابتسامته باسترسال ودون توقف، كتمتها في نفسي وعدت أدراجي إلى بلجيكا على أمل أن يبعث إلي بالديوان هناك بعد أيام، لم تصلني منه إلا مئتا نسخة بعد ستة أشهر، وفي أسوء ما يمكن أن يكون عليه ديوان شعر.
بعد كل هذه النكسات لم يبق أمامي إلا مصر، بلد الثقافة والإبداع والنشر، حجزت تذكرة إلى القاهرة، وساعدني صديق مصري شاعر في حجز غرفة بفندق هناك بثمن مناسب، مطل على ميدان التحرير والمتحف المصري، قمت بالاتصال بالرجل المهذب مصمم الأغلفة لأخبره بقدومي إلى مصر، فرح جدا بي وأعطاني رقم هاتفه مؤكدا علي على ضرورة الاتصال به أول ما أصل القاهرة. وجدت زادي لرحلة العمر قد تهيأ، وأوشكت على الانطلاق نحو الحلم المصري، الذي شاءت الأقدار أن يكون بعد ثورة ٢٥ يناير.