سؤال “كوروني” للنقاش: عبثية السياسة ومتاهة الفكر في غياب التقريض!
ثمة خاصّية مغربية وعربية تخرج عن سياق تطور المجتمعات التي تعايش حداثة حقيقية هي شحّ التقريض وغلبة النقد. والفرق بينهما دلالي وفلسفي، إذا ميّزت المدارس الفكرية الغربية بين critique (أو ما يقابله لدى العرب التّقريض)، وcriticism أو النقد الذي تشبّع به جل المغاربة على غرار بقية العرب به بنفَس سلبي وفجّ في أغلب الأحايين. فكان للغرب فنّ التقريض ومناهجه العلمية منذ انتشار فلسفة الأنوار في أوروبا في القرن الثامن عشر، وقيام مدرسة فرانكفورت التي انبثقت منها النظرية النقدية في الثلاثينات من القرن الماضي من خلال أعمال الثلاثي الشهير ماكس هوركايمر وتيودور أدورنو وهيربرت مركوس، ومهّدت لطفرة فكرية في علم الاجتماع والدراسات الثقافية ودراسات الإعلام.
توسّعت النظرية النّقدية في الفلسفة المعاصرة لتبلور تحقيقا منهجيا في ظروف وعواقب أي مفهوم أو نظرية أو نظام أو منهج أو منطلق من أجل فهم مدى صلاحيتهم ومحدوديتهم. ويمثل المنظور التقريضي مقابلا للمنظور الدوغماتي أو العقائدي (فكريا وليس بالضرورة دينيا). ويستحضر المرء هنا مقولة إيمانويل كانط الذي ذكر في مؤلفه “تقريض الحكمCritique of Judgment: “نحن نتعامل مع مفهوم دوغماتي.. وإذا اعتبرناه ضمن مفهوم آخر للكائن الذي يشكل مبدأ العقل ويحدده بما يتوافق معه. لكننا لا نتعامل معه بشكل نقدي إلا إذا اعتبرناه إشارة إلى قدراتنا الذهنية المعرفية، وبالتالي إلى الظروف الذاتية للتفكير فيه، دون التعهد باتخاذ أي قرار حول موضوعه”.
من أجمل تجلّيات هذه المدرسة تعاون هوركايمر وأدورنو في تأليف كتاب رئيسي بعنوان “جدلية التنوير” عام 1947، قبل أن تعزّزت بجيل آخر يمثله يورغن هابرماس وأكسيل هونيت وإدوارد سعيد صاحب “الاستشراق” الصادر عام 1978. ومن خلال الحفريات النقدية، تفكّكت عدّة أبنية أيديولوجية وسلطوية هشّة خلال الأعوام المائة الماضية، فساهمت النظرية النقدية في إنهاء الإقطاعية والكولونيالية والسلطوية والعنصرية، ومهدت أيضا لانتشار فلسفة الحريات العامّة وحقوق المواطنة والمساواة وحكم القانون في أوروبا وأرجاء أخرى في العالم.
أمّا العالم العربي فقد قاوم ولا يزال التقريض بسبب قربه الحميمي مع العقل، وأحبط جلّ محاولات الإصلاح ومشاريع النهضة المتلاحقة منذ 1906 و2011 وسائر موجات الخروج عن التقليدانية والتقوقع على الأنساق ذاتها، وكأنها جمود أزلي منذ وفاة أبي الوليد بن رشد وهو يتحسّر على مآل كتبه النقدية. وتزداد المتاهة تيها حاليا عندما يتمّ تهميش أو محاربة أنصار التقريض من مثقفين وأكاديميين إلى حدّ أن الجامعات المغربية والعربية تفتقر في أغلبها لعمود فقري تقريضي في جسدها التعليمي الذي لا يطاوعها على تركيب معرفة جديدة.
أقتبس من الأستاذ محمد كنوف عبارة محورية من مقالته الجديدة، فهو يقول: “أصبح المشهد الثقافي لامعا بالفراغ، والثقافة في تجليها العام، كل مسموع، مكتوب ومرئي في خبر كان.. إنّنا اليوم نعيش الموت الفكري الخالص، فنقرأ نقدا بآلة السباب والشتم والضرب تحت الحزام.. فيبدو أننا أمام ظاهرة مفلسة لا تخدم لا ثقافة ولا ذوقا ولا فكرا أو فنا. عند هذا المستوى المتدني فنا ونقدا نكون أمام ما نسميه نهاية النقد.” أحيلكم إلى مقالته المتنورة حقّا بقواعد ومتطلبات النقد في المنحى التقريضي أسفل التدوينة.
قد تصل هذه التأملات إلى حد إعلان حالة طوارئ خشية من انتحار الفكر والسياسة في غياب التقريض أو النقد البناء.
وسؤال هذه اللحظة “الكورونية”: لماذا يعاني المغاربة وبقية العرب شحّ التقريض وغلبة النقد غير البناء؟ أهلا بأجوبتكم وتعليقاتكم.