لم يتوقف الذوق منذ عصور طويلة عن التأمل والنظر في النصوص خاصة والفنون عامة قصد اكتشاف ماهيتها وخلفياتها، وحتى ما تعود عليه مرجعيتها. كان النقد معيارا ذوقا في أول اكتشافاته، فارتبط الذوق عند المشتغلين على النقد بأذواقهم التي اتكأت على ما رأوه وأحسوه من خلال النصوص والفنون من عوالم مرجعيتها الانطباع. مثال على ذلك من تاريخ الأدب العربي، على بوادر النقد التي ظهرت عند ابن سلام الجمحي، ثم صدر نقد أكثر منهجية ولو بدائية عند ابن قتيبة في طبقات الشعراء. ولما جاء الإسلام وازدهر عصره بثقافة تجاوزت عموم ثقافة المجتمع القبلي الجاهلي، أضحى النقد مواكبا للدين الجديد في ثقافته وفي مرجعيته تأييدا للذوق الجديد وللفكرة الجديدة، ودفاعا عن المرجعية السماوية الجديدة، وهكذا حدثت الطفرة التأييدية لمن كانت مرجعيته متداخلة مع الإيمان بالله ورسوله، وصار من ينافح ويدافع عن القيم الجديدة صاحب منهج ومنهاج يمكن اتباعه في الإبداع. وكان لنا المثال في الشاعر حسان بن ثابت والشاعر عبد الله بن رواحة وكعب بن زهير.
وقد تطورت فنون النقد بعد ذلك، أي في العصور القادمة من أموي وعباسي، إلى أن أصبح علما ومنهجا دراسيا مقعّدا بشتى النظريات التي شقت طريقها في بيئة عربية وإسلامية، فظهر الجرجاني كمثال ساطع في محاولة توليد نظرة عميقة إلى عناصر التكوين التي تؤثث الإبداع العربي بشكل خاص. وهكذا بدأت مسيرة النقد كعلم ومنهج يمارسه اختصاصيون في اللغة وتوليد العبارات وتوليد الإحالات، وظهرت دراسة النقد في مجال الصورة الإبداعية كبنية منفصلة عن الشكل والمبنى.
تسارع الوقت بعد ذلك إلى العصور المتقدمة فأضحى النقد علما وأصلا لا فرعا مؤثرا ومتأثرا بعموم ما ظهر في العالم من نظريات جديدة متأثرة بالمرجعية البيئية أحيانا، أو الاجتماعية، ومتأثرة بعلم الاجتماع والنقد النفسي متأثرا بعلم النفس، ثم الدادائية والبنيوية على سبيل المثال لا الحصر. ونحن هنا لا نؤرخ بقدر ما نحاول لتوطئة مرجعية حتى يمكننا أن نربط الحالة النقدية الأصيلة بالحالة المعاصرة، إلى ما نعرف من ظهور الحداثي وما بعد الحداثي، ومحاولته تجاوز كل ما أسس قبله من قواعد ونظريات، إلى أن دخلنا عهد العولمة في إطلالة جديدة على العالم، محطمة كل ما سبق ومؤسسة لعصر النظرة الضوئية ومحاكاة للتواصل الجمعي على مبدأ التشابك والسرعة والتجاوز.
والآن لا أخالف الحقيقة في اعتقادي إذا قلت إننا دخلنا عصر نهاية العولمة وظهور معايير ثقافية جديدة تنذر إيذانا بنظام عالمي ترافقه نظرة إبداعية جديدة، وبأساليب مختلفة كليا في أشكالها ومعانيها. أجد أننا الآن في درجة الصفر لنظام كوني مبعثر التجاذبات، لأن نظام العولمة الثقافية تلاشى بفعل تلاشي النظام العالمي الذي ضغط على الإنسان الاجتماعي بقوة المادة حتى انفرط عقد هذه الآلة التي تحكمت في الإنسان بطرق شتى غير مراعية الجانب الاجتماعي والنفسي للإنسان، الذي هو أصلا حالة نفسية، اجتماعية، وظاهرة عاملة في صلب البشري الكوني.
كل هاته المقدمة والمعروفة كخطوات تاريخية، أتيت على ذكرها لأسباب معينة كمدخل للجواب على سؤال جدي نابع من تأمل المفكر والمبدع، والذي هو كما يلي: إلى أين نحن ذاهبون في استقرائنا للمستقبل؟
الظاهر من حالات الفكر والنقد المرافق له يحيلنا على إجابة واضحة تعلمنا بأن حالتنا النقدية تشوبها ظواهر كثيرة من الخلل.
فلما تطورت أساليب التواصل والتي نمت حالاتها في الإنسان اجتماعيا، كان لابد أن نلاحظ هدمها للترابط الاجتماعي، فنمت الأنانية على كل مستوياتها، فأصبح الإنسان المبدع كفرد من أفراد الحالة العامة والتي يحكمها نظام التكتل المالي وليس الثقافي، حالة تحمل معنى الاستهتار كطفرة مرضية لا تراعي القواعد العلمية، ولا تحاول البناء لنظرتها على أسس عميقة من جذور الثقافة التي حكمت تطور الحس الثقافي لدى الإنسان. أصبح الإبداع منحطا ورديئا وهابطا. نقصد بالإبداع هنا المعنى الجامع والعام، فغلب الإبداع المرئي على الإبداع المكتوب. هكذا يمكننا الوقوف على مكامن الخطر الذي اعترت تفكير وإبداع الإنسان العولمي بالتحديد.
هذا الكائن الثقافي الذي ظهر، إنما ظهر كمتوحش لا أسس ثقافية تحكمه، ولا مرجعيات في الثقافة العامة توجهه، فاستحال العبث الذي استهواه إلى ظاهرة إيديولوجية متحكمة في مرجعيته، ولو أننا نتحفظ على مصطلح الإيديولوجيا، ونعتقد أنها اختفت وبشروط معلومة عند المفكر الدارس العميق.
الهاجس المادي في مرحلة ما بعد الحداثة وخلال النقمة العولمية، ظهرت الكثير من الحالات الثقافية غير ممنهجة على قواعد محفوظة، فهب ودب كل من يستطيع رقن الحروف على الآلة، وكل من استطاع أن يصور بآلته كلامه دون قيود علمية ولا بحثية، لا إرضاء لحالة إبداعية مؤصلة في كيانه، لكن وببساطة امتطى موجة الاستسهال للإبداع، والطامة الكبرى، هي أنه اعتقد جازما أنه في مصاف المبدعين الذين يستطيعون التأثير على الفكر والحالتين النفسية والاجتماعية. فأصبح الكتاب لا يقرأ، ولا تاريخ الإبداع ولا استشراف نظريات المفكرين. مرجعيته الآن هو نفسه كمنتج للثقافة، والهدف مادي بامتياز، سواء ممن ينتجون ثقافة تخدم إمكانياتهم، من ساسة ومسؤولين ومتحكمين في المشهد الثقافي الذي يريدونه كنمط ونسق إبداعي يعتمد على إلهاء المتلقي تارة، وتارة لإفراغ عقله مما يعتقده من أفكار وتعويضها بنزوات إلهائية، وجعله يؤمن بأنه أصبح مفكرا وهو دلو من فراغ.
والحالة هاته، أصبح المشهد الثقافي لامعا بالفراغ، والثقافة في تجليها العام، كل مسموع، مكتوب ومرئي في خبر كان. إذ السؤال المنهجي يفرض علينا حاله، ما معنى الثقافة منهجا ومنتجا؟
والحالة التي تحيل إلى الإجابة، قاصرة ومقصرة، بمعنى هل يستجيب من يعتبر نفسه اليوم مثقفا إلى خلق أجوبة ثقافية على السؤال الحقيقي؟
إننا متألمون جدا لما صارت عليه حالة الثقافة بظواهرها ونقدها، فكل من تهجى حرفا ولم يعلم اشتقاقاته اللغوية ومصادر الأفعال، تطوع ليؤسس لجهله مشهدا في الكتابة وهو أبعد ما يكون من صفة المبدع أو المثقف بصفة عامة، وكل من لا تتفق النصوص المكتوبة مع ذوقه أو تصوره الإيديولوجي صار ناقدا وهو لا يمتلك أبسط أدوات النقد ولا متطلعا على تاريخ علوم النقد ولا آلياته، إننا حقا في الطريق إلى الحتف الكبير كما سماه موريس نادو.
أما الثقافة المنجزة بآلة تصوير فهي أكبر من الطامة، إذ كانت حالة التساهل مع شروط الإنتاج الثقافي حركية تبيح لكل من له فما وآلة أن يعتبر نفسه في مصاف المثقفين. إذ كيف يعقل أن يتجرأ من هم فقراء علميا وموهبة وفكرا، أن يطاولوا بالنقد من هم يملكون قدما راسخة في الثقافة والإبداع.
إننا اليوم نعيش الموت الفكري الخالص، فنقرأ نقدا بآلة السباب والشتم والضرب تحت الحزام كأننا في سوق عام، ومن بدت له سوأة أخيه عارية زادها عريا إلى درجة الإفلاس الأخلاقي (ولنا عودة إلى الإفلاس الأخلاقي وأزمته) في مقال قادم. فيبدو أننا أمام ظاهرة مفلسة لا تخدم لا ثقافة ولا ذوقا ولا فكرا أو فنا. عند هذا المستوى المتدني فنا ونقدا نكون أمام ما نسميه نهاية النقد.
نقول للذين يتجرؤون على أعلام وجهابذة متأصلين في تطوير الثقافة، عودوا إلى بيوتكم وأعيدوا قراءاتكم وتسلحوا بالنظريات وبتأسيس أدوات الفكر والنقد، واخرجوا إلينا من باب النقد الموضوعي العلمي، وبإظهار مواطن الخطأ وتصويبه، وبدحض المنسوب بالانتساب وقارعوا الحجة بالحجة. هكذا يمكننا الوثوق باجتهاداتكم، وإلا فكل منتج لكم مردود عليكم لكونه طفرات وفزاعات لا تخدم أي مجتمع.
فلكي تكون ناقدا مجتهدا، يلزمك أن تكون شخصية دارسة، لا شخصا بذاء لعانا، لقد انتهى حال التجاذب الأخلاقي، نحن الآن نؤسس لمرحلة سياسية مالية وثقافية جديدةجدا، متجاوزة ثقافة التسطيح والتهويل والوعيد. النقد مستقبلا سيكون أكثر عمقا وأوضح فاعلية في نقد المرحلة الماضية مبشرا بأسس جديدة، تعتمد على الرؤية الخلاقة والمستشرفة لما سيكون عليه المجتمع البشري القادم.
فمثلا إذا أردت أن تنتقد إبداع شاعر ما عليك أن تكون أولا ذا حس شعري باذخ، ولزامٌ عليك أن تتسلح بأدوات النقد قديمه وحديثه، وأن تعرف تطور القصيدة من الكتابة الطبعية الشفاهية، ثم النظمية ثم الترصيفية، مرورا بظهور قصيدة الشعر الحر أو الجديد أو الحديث، وضابطا للمصطلح وبالتدليل، انتهاء بقصيدة النثر وما لها وما عليها. هذا فقط مثال غير محصور، وهكذا في نقد كل الفكر ونظرياته وجميع الفنون واتجاهاتها.
فمثلا إذا كنا نستسيغ السماع لموسيقى بتهوفن أو باخ، فلا يتسنى لنا نقد العيطة والأحواش وما إلى ذلك، لأننا لم نؤصل في ذوقنا وفهمنا تاريخ وآليات هاته الموسيقى الأصيلة. وإذا أردت أن تنتقد ماركسيا، كان حريا بك أن تدرس فكر هيغل أولا ثم ماركس وأنجلز ثم لينين وماوتسيتونغ، لتكون بهذا قد أسست نسقا فكريا ورؤية ثقافية شاملة ليتسنى لك نقد ذلك المنتج الفكري، ولكي تنتقد على سبيل المثال البروفيسور محمد الشرقاوي المدرس بأمريكا لابد أن تكون ملما بالدراسات القانونية السياسية والاجتماعية والتي يتقنها جميعها هذا المفكر، ذلك على سبيل المثال.
الملاحظة التي لمسناها من خلال تسخير كل أدوات العولمة التواصلية في خلق نقد معين بلا أصول، إنما هي طفرات بمرجعية مناوئة للمبدعين والمفكرين، إذ هذا النقد يعتمد على مبدأ الحساسية لا غير، فكل من وجد له حساسية في إبداع وفكر أي شخص لا يتوافق مع حساسيته فسيظهر له سيف القتل وإهدار الدم. ومن الحساسيات، الدينية عامة والإسلامية خاصة، والاجتماعية والعصبية والسياسية، وكل هاته الحساسيات لا تسلم من محرك خلف الواجهة خدمة للمصلحة الفردية، لا الجماعية.
إنها قمة الاستهتار بالوعي البشري، وأظن أننا اشتغلنا جميعا سواء بإرادة أو بغيرها، على تأصيل هاته الظاهرة، وللأسف جعلنا حياتنا بها ضيقة فعلا بها كتم الأصوات، وسجن حرية التعبير، وقتل كل فكر إنساني حر، أو على الأقل فكر يطرح وجهة نظر ويجوز مناقشتها على أصول وقواعد.
أخيرا لم يكن هذا المقال سوى رد فعل على ما آلت إليه الحياة الثقافية وما صار من نقد سخيف غير مبرر، وأردنا أن نأخذ بيد المشتغلين على الثقافة أن يتهيؤوا لمرحلة ما بعد كورونا والتي قلبت الوضع المادي، الثقافي والسياسي رأسا على عقب، وأقول بأن المرحلة الجديدة هي مرحلة الثقافة الرصينة والإنسانية بامتياز، لأن ما وصلنا إليه هو النهاية.