“طيف بثينة – قصة قصيرة -” :
كلما مررنا بالقرب من تلك القرية المهجورة لمحت في وجهه اضطرابا، لا يزول عنه إلا حين يوقف سيارته عند باب حديقة الألعاب المتهالكة، متظاهرا بالكسل يتثاءب ككل مرة وهو ينزع نظارته قبل أن ينزل معتذرا بنفس الأسباب،” لنأخذ قسطا من الراحة عزيزتي”. لم يكن رد فعلي اليوم مماثلا لما عهده مني، فلم أظهر أي اعتراض، بل على العكس من ذلك نزلت المنحدر قبله مسرعة، كطفلة غادرت لتوٍّها حصة دراسية مملَّة، حتى أنني صرخت بقوة حين لم أستطع التحكم في قدماي وقد بلغت ضفة النهر، فكدت أقع في الماء. لم أعر نظراته المستغربة والحائرة من حالي تلك أي اهتمام وتابعت مرحي بنشاط، فامتطيت ما بدا أنه كان سابقا حصانا خشبيا جامحا، ومنه قفزت إلى الأرجوحة الصدئة، حينها أحسست بيديه الدافئتين تدفعاني برفق بينما يتلاعب الريح بتلابيبي. وأنا معلقة بين الأرض والسماء التفت خلفي للحظة، بدا لي من ابتسامته أنه تجاوز مرحلة الصدمة الأولى فقررت إعادته إلى نقطة الصفر.
اقترحت عليه أن نلعب الغميضة، أحكمت شد المنديل الأسود على عينيه ووضعت شيئا من القطن في أذنيه، عزلته عن محيطه تماما. لم نشترط حيزا أو حدودا لفضاء اللعب، تركته يبحث عني كالأبله وقفلت عائدة إلى السيارة. غيرت ملابسي بسرعة، ارتديت فستانا أخضر تزينه زهور صفراء كأي فتاة بدوية، ونزعت حجابي فبدت ضفيرتاي اللتان بذلت جهدا مضنيا في إنجازهما وقد منحتاني ملامح طفولية بريئة. نظرت إلى مرآة السيارة مطولا وابتسمت، فأنا الآن لم أعد كاميليا، أنا الآن بثينة، الفتاة البدوية التي لطالما حضر طيفها تلميحا أو تصريحا في أغلب كتابات زوجي، قصصه ورواياته لا تكاد تخلو أي منها من هذا الاسم سواء في دور بطولة، أو حتى على هامش الحكاية أحيانا. أمر ما عدت أطيقه، دفعني الفضول يوما إلى النبش في حديقته الخاصة، تعللت بضرورة تنظيف مكتبته حتى أستطيع تفتيش محتوياتها، فلعلني أجد ما يفك لغز الأحجية بعد أن تهرب مرارا من أسئلتي حولها لكن دون جدوى هذه المرة أيضا.
عدت مسرعة إليه وجدته لا يزال على حاله يناديني وهو يتعثر بين الأشجار، أطلقت ضحكة جعلته يستدير متوجها نحوي. حين كادت يداه تلمساني أدرت له ظهري، وضع يدا على كتفي وباليد الأخرى نزع المنديل الأسود من عينيه. ” أخيرا وقعت ” قالها منتشيا بإنجازه، قبل أن يصمت لوهلة خلتها دهرا. أحسست بيديه ترتعشان قبل أن يصرخ بأعلى صوته ” كاميليا …” استدرت نحوه ونظرت في عينيه المضطربتين، ” بل بثينة ألم تعرفني أيها الأديب الأريب والحبيب المخلص “.
رأيت منه ابتسامة عريضة أتبعها بضحكة مدوية:
– فداك كل بثينات العالم حبيبتي، أما تعلمين أن زوجك ذو خيال واسع وقد يخلق شخصية وهمية يكررها في كتاباته حتى يألفها الجمهور ويتفاعلوا معها، لكن صدقيني لم أعلم ولم أعمل حسابا لأن تكون زوجتي أول ضحية لأسلوبي هذا.
أخرسني كلامه لوهلة وأنا أنظر لعينيه، وقد بدا أنني تأثرت بحجته هذه المرة. لكن ولأن المرأة لا تقتنع بسهولة، صرخت في وجهه والدمع في عيني:
– وهل عجز خيالك الواسع عن توقع شعور زوجتك حيال هذا الأمر…
لم يتركني أتم كلامي بل ضمني إليه بقوة حانية وكأنه يحاول إصلاح ما أعطبته الوساوس في صدري. حين هدأت وأحسست بضمته وقد تراخت قليلا، رفعت نظري إليه فابتسم لي قائلا:
– حبيبتي حان دورك.
وضع الثوب الأسود على عيني، وبدل أن يسرع بالاختباء قادني برفق إلى السيارة، تركني هناك لفترة وجيزة قبل أن يعود حاملا باقة من أجمل الزهور البرية التي أعشقها.
……
وهي بحضني نظرت فإذا الشجرة خلفها هي ذاتها التي كنا قد حفرنا اسمينا أنا و بثينة على جذعها، بثينة الفتاة البدوية التي لا زال طيفها يسكن روحي ويسكن أرجاء هذه الحديقة المحاذية لضفة النهر، النهر الذي أخذها مني ذات شتاء عاصف، النهر الذي لطالما أحسست بأنه يغار مني وربما يضمر لنا شرا، لكنني لم أكن أعتقد أنه سيفعلها ويخطفها مني على حين غفلة. كان الاسمان بارزان للناظر بشكل واضح رغم مرور السنين، خشيت أن تلحظهما كاميليا فينتهي كل شيء، لذا كان عليٌ التصرف بسرعة.
– حبيبتي حان دورك.