ما من شك أن التكنولوجيا قد قربت كثيرا بين القارئ والكتاب رغم أنها زادت الهوة والمسافة بين التلقي والإنتاج الذهني. وإذا تأملنا ثورة الإبداع “الافتراضي” التي جعلت بإمكان كل من هب ودب أن يفتح حسابا “مجانيا” ومقنّعا قد لا يكون موقعا باسمه على صفحات عشرات المواقع التواصلية أشهرها على الإطلاق فايسبوك وتويتر، ليطل من خلالها متى شاء وبدون انصياع لقواعد متعارف عليها أو ضوابط ومعايير مهما كانت بسيطة، أو رهبة من عين رقيب أو موجه أو مثل أعلى أو قدوة، ولا حتى لصوت ضمير قد يؤنب ولو بشكل افتراضي صاحبه، الذي تهافت كما تهافت كل من على شاكلته في درب سيلفي إثبات الذات، لربما في مجال أو حقل معرفي ابتكاري لا يمت إليه بصلة لا من بعيد ولا من قريب، بل هو سير مع السيل الجارف لا غير.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد من نشر على صفحة خاصة كعرض بضاعة قد يلتفت إليها من يستحسنها لتشابه معايير الإبداع والتلقي في مجملها في خضم هذا البحر الأزرق الواسع الذي تتشكل فيه أسراب (جروبات ومنتديات) أسماك (أسماء مبدعة على مذهبها وطائفيتها) من جنس واحد، بل أصبحت تلك الرديئة منها على الخصوص تتشكل وتتنظم في انضباط غير مسبوق تاريخيا لسهولة التواصل وبساطته، لتشكل جبهة تصف نفسها بالحداثية وهي لا تعرف بدءا عن الحداثة إلا اسما أسيئت ترجمته، وأسيء فهمه وتوظيفه كمولوتوف يشهر في وجه الزمن الذي هو نتاج موروث إبداعي ثقافي أصيل، لو تمعنا فيه جيدا لأدركنا أنه وحده من يشكل حداثة حقيقية منسجمة مع ذاته باعتباره يتطور من داخل هويته دون أن يحتاج إلى مقومات بعيدة عنه لا تعبر عن حداثة ذاتية بقدر ما تشكل انبهارا بنموذج خارج إطار اللغة والإيقاع العربيين، وبالتالي هو انسلاخ وليس تطورا.
تدخل صفحات من وسموا أنفسهم باسم الشعر أو القصة أو الرواية فلا تجد ما يبل ريقك حين يصيبك ظمأ وأوام، ألقاب لم ينلها المتنبي في أيامه ولا ابن منظور ولسان الدين بن الخطيب، ونفاق نقدي يحصر آلياته في بضع كلمات من مثل: ما أروعك، وهو يقصد ما أجملك إذا كانت صاحبة النص امرأة حسناء مثيرة، أو ما أكرمك وأجودك إذا كان صاحبه من أصحاب عقال النفط أو صاحب منبر إعلامي أو ذا نفوذ وسلطة، لا يهم الإبداع بقدر ما تهم الفائدة المرجوة المبيتة من وراء نفاق الكلمة أو زر الإعجاب أو التعليق المنمق.
كثرت التكريمات والاحتفاءات والتوقيعات وشهادات التقدير والمهرجانات والأمسيات والروابط والمنتديات، وأشياء أخرى لا يقبلها عقل ولا منطق، غير أن الغائب الرئيسي هو الميت/ الإبداع الذي مشوا في جنازته وأكلوا وشربوا حتى أتخموا في مأدبة تأبينه، ثم أدركوا بعد غفوة قيلولتهم أنهم قد نسوا دفنه فهرولوا نحو الجحود ليجعلوا منه له قبرا، أمام رصد إعلامي: صحف ورقية باهتة أو مواقع إليكترونية شبه أمية لا تحصي بعدُ حروف الهجاء، فتراها تتعنتر في وعد ووعيد وقد جعلت من منابرها خناجر تسلها متى شاءت لاغتيال المشهد في عمليات تصفية حسابات سافرة، وقنوات مرتزقة تحصي الدريهمات قبل أن تشحذ إسهاما لمن يرتاد كاميراتها الخفية على رصيف الارتجال.
وما ينطبق على الشعر والإبداع المكتوب ينطبق أيضا على الفن أيضا، فما نشهده من ترهل للحالة الفنية أو “الصراخ” الذي يقدم على أنه غناء، غني بكل تقنيات الإغراء والابتسامات والمساومات، والتوظيف الجمعوي والنقابي والسياسي أحيانا، يوظف في كل مسلك إلا وظيفة الفن والطرب. مثله مثل الفن التشكيلي وغيره من الفنون التي إنما وجدت لترفع من روح الجمال في دواخلنا لا فقط الرصيد البنكي للجهة التي توظف ذلك الفنان “المسكين”، مقابل ما تتركه له من فتات معارض!
أين نحن من الإبداع ومواكبة الجمال والفطرة بكل الوسائل الممكنة؟ سؤال ما زلت أطرحه على نفسي كلما مر بي هاجس القلم أو طيف الريشة أو دغدغة أنامل لوتر، ربما تملك الإجابة عنه أنت، نعم أنت؟