تماما، مثلما عوّدنا شاعرنا في سابق تجاربه المنتصرة للقصيدة المنبثقة من خارطة الصوفي الغامز بدوال الانتماء إلى حقل المشترك الإنساني، بصرف النظر عن اللبوس الذي فيه يبرز النّص الموجز، وكيف أنّه يطال بألوانه جوارح التّلقي، ليدخلها في لحظة تشكيك وقلق يفتح نوافذ في القلب مضاعفا تمرّده ومذكيا ثورته السكونية المسالمة، ملتزما بالأدائية المناورة بأسئلة الموت، الهوية، الشوقيات، الغياب، الوجع اللذيذ، المنفى، الأمل، الانكسار، العنفوان، إلخ…
ومن ثمّ عجنها واقتراحها ككل أو وحدة متجانسة، وفق ما يتيح للكلمة وظيفة أعمق وأحوى في إحداث ترتيبات مكرورة ولا نهائية للمشهد المضطرب، فتقديمها أو عرضها على أنها فوق ما يحمل المعنى من فروسية كلامية قائمة على المفارقة والكثافة، ومندفعة الرؤى صوب استنفاذ كينوني مكرّس لضرب من نضال ضدّ سلبية ونتانة ونقصان العالم.
بحيث يأبى الشاعر الأردني المبدع زيد الطهراوي إلاّ أن يفتتح أحدث منجز له، بعتبة عاكسة لحمولة النداء الغليظ، نابعا من ذات مقهورة ممسوسة في المقدّس، تآكلُها مرارة الطعن في قضية العروبة الأولى، كأنّما تحاول أن تسجّل بالحبر السرّي، صرخة الصعق وإن تولّدت بنكهة نداء على مقاس الشعرية الذائبة في أفلاكها التمظهرات الثلاث للقصيدة: خليلية وتفعيلية ومنثورة، نكهة تخز الضمير الميت أصلا، وتنكأ المواجع المفتولة بمتون استشعار حجم الشماتة التي تلطخ واقع النسل المقدس، وتجعل من مفردات الشهادة خيار الساعة الوحيد.
” يا أيها الأقصى” ..
اقتضاب تلوّنه استغاثة هادرة تلدغ بصوت خفي يترجم مستويات الاحتقان الذاتي، ويعرب عن المختزل الجمعي المرابطة في أدغاله، أمّ القضايا، في خلودها المعتّق بيقينية الشهادة وفوح أعراس الدم، نكاية في غطرسة الآخر المغتصب، وانتصارا للانتماء العربي المهدور.
الحشو أتى هكذا جاذبا ومغريا، ومقصودا، وفي سياق ضاج بجودة المزاوجة ما بين الإنساني والعقدي، إمعانا في إدماء مكامن الجنائزية والخريفية وعمى اللون.
لا مكان من حيث القدسية بعد الحرمين، أحقّ بنظير هذه الأنسنة الراقية، كالأقصى ورحابه على امتدادها في وعي وثقافة الإنسان خارج حدود جغرافيا الأديان والأعراق والألسن.
هكذا تهيمن ذاكرة المكان المقدّس على جسد المنجز، سانحة لفرعيات قزحية جمّة، تتواتر كي ترعى لا حقا واطرادا معاني الأضداد في تجاذباتها وتكامليتها أحيانا.
تبعا على الدوام لما هو والج في تواشج الإنساني والعقدي المترنم بحنيفية ووسطية واعتدال الإسلام.
لنتملّى الاقتباسات التالية:
” هجموا على الأقصى اليهود وإنهم
حقّروا الشعوب وخطّطوا لخرابه
للعزم ثورة عاشق مستسلم
الله يروي أرضه بـــــــــــــــعذابه
فلتغنم كل النفوس نعيمـــــه
ولتدخل الرضوان من أبوابـــــــــــــــه”.
………………
” يا قامة في حياة النوارس توقف نبض الرياح
ويا وطنا للجموع التي تتكسّر لكنها لا تسلّمُ أحلامها للنواح
فما أنت في ساحة البسطاء؟
فكل المنابع تعلن أنّك ترسل وعد الشذى والصداح
أخاطب فيك النوافير والأمنيات
وأعجن خبز القصيد على صحوة وفضاء”.
………………..
” صلوا عليه وسلّموا
قـــــال الذي فطر السماء
صلى الإله عليكمــــو
عشرا وضاعف في الجزاء”.
………………….
” فوّاحة في كل درب جثتي
فأنا المتيّم بــــــــــالممات الأروع
الموعد الجنّات ميراث سمـــا
وأنا الشهيد حملت آمالي معي
أمّاه لا تبكي عليّ وجدّدي
لي دعوة تنسي مرارة مصرعي”.
…………………..
” وما بك ما بك أتعبت همسي وأربكته بالندوب
و وحدك دربي ولست أحيد وأختار دربا
فأنت وفاء الندى للوريقات كيف سأنكر فيك نقاءك
وما زلت أمشي وأمشي وحيدا وأنسى الدروب”.
……………………
” فاقت بلادي في الجمال وأورقت
فغرستها شجرا يــــــــعاف ذبولا
ومزجتها بالقلب واجتحت الدجــى
معها لنصمد في الظلام شتولا
صدّقت أحلامي ورحت موليـــــا
وقتلت فيها واقعا مغلـــــــــــــولا”.
………………….
” ( أهاجك أم لا بالمداخل مربع)
وجادك بالدمع المذلّل منبع
لك الله من صبّ يسافر في الأسى
ويأوي إلى قلب به يتصدّع
رماك العدى وانحاز عنك مصاحب
فيا ليت شعري كيف دمعك يقلع
تمسّك بشرع الله إنّك راحلُ
وكل لبيب للهداية يرجــــــــــــــــع″.
…………………….
” هذي الديار إلى سكناك طامحة
ونبض قلبك قنديل يواسيها
وقد عهدتك في التغريد مضطلعا
بأن تقطر أنغاما تناجيهـــــــــا
لـــــن يسلوّ القلب ميراثا تحبّبه
فكلّ ما فيه أفواه تناديهــــــــــا”.
……………………..
” إذا الحزن جاء إلى شرفاتي
سأطلب حرية الكلمـــــــاتِ
جميع القيود استحالت هباء
وأمنيتي أن أحرّر ذاتـــــــي”.
يعزف المنجز على وتر تفجير أنطلوجيا الكائن الوجودية، وينوّع إيقاعاته لصالح الموازاة، أو بالأحرى المحاكاة التي يغدق بها الحضور القوي لذات إبداعية تختار الهشاشة، وهي تحاول البوح بسائر ما قد يتيح لها تبوؤ محطات الخلاص.
تدشّن هذه التعبيرية المتناسقة مجاراة عناصر الأنسنة للديني والعكس بالعكس تماما، تحت لواء التجريبية المفتية بقفزات لا واعية، أو هذيانية ترقى بالشعرية إلى مراتب الإدهاش، وتختزل الكل في الواحدية، وتمنح الذاتية تعدديتها في مرآة الآخر.
وفي القصيدة ذات وسوم ” فرار إلى الله” والتي لا يمكنها إلاّ أن تتسربل بمثل هذا التبويب، كونها تلامس عذرية الآفاق الغيبية، وما تنفكّ ترنو إلى طقوسيات سدرة المنتهى مهتدية بنورانية الذات الإلهية، نجد تناص المعارضة الواشي ببعض ما أسلفنا، ويطلق التغريدة متوجّة ومشبعة بإرسالية مندغمة في الخطاب الصوفي المحايث لإرهاصات وإبدالات العنونة المنجز:″ سنديانة الأشواق”.
وإذن … هذا الانفلات، مخاتلا برمزية الانحياز لصفّ عمّار الأرض بالخير والنور والتسامح، ضد اللصوص والقتلة، إنما ينمّ بشكل أو بآخر على ذاتية التجاوز، مشفوعة باشتعال الشوق إلى ما هو علوي سام مظلل.
وحدها الكلمة السيف، قادرة على رسم ملامحه السماوية، ومزدانة بمعطيات الحرية المطلقة الأليق بخيول قلب يغزوه كل هذا الفضول.
نصوص تحاور بنرجسية صاحبها، ضاخّة في المعنى ما فوق الأبجدية من معجزات ليس يجود بها غير عناق الديني للإنساني والعكس بالعكس تماما، حدّ اكتمال الطهر والمصالحة والتجاوز.
هذا ما استطاع تحقيقه ديوان ” سنديانة الأشواق”، ضامّا العاشق والشاعر والصوفي تحت سقف واحد، مصرّحا باختمار المعاناة، ومفلسا إلاّ من سردية شوقيات الذات والقصيدة إزاء التجاوزات الكونية، وحسب فصول مشهد بكائية ربما تتيح المنشود من جريرة الإخلاص لفن أزلي يكنّى الشعر.