– “… الحياة لعبة نرد جميلة، بوجوه متعددة، أو الأجدى تعريفها بحرب أحيانا حامية الوطيس وبين الحين والحين حرب باردة بين ثنايا شراشف الأحداث؛ تارة تبث في ثنايا نفسك بذور أمل تسقى بالنجاحات الصغيرة المتتالية، وتارة أخرى تسرق بريق الفرح من عينيك، ويكتسي عالمُك معطفَ الليل الحالك السواد.. كفيل بنا أن نعرف الحياة حسب هوانا ومداركنا، فجل ما نقدمه في النهاية عصارة تجارب أيامنا وخلاصة أقوالنا التي يُسدل بعدها الستار..” – عفوا سيدي!!.. انتشلني هذا الصوت الأنثوي من عالمي الرفيع، في الحين الذي كنت أضع فيه اللمسات الأخيرة على مقالتي، التي تعد الوجبة الدسمة لأمسية الأدب هذه الليلة.. رفعت رأسي لأرى سارق لحظة الهدوء هذه مني، فإذا بها شابة فتية بوجه يحمل براءة الطفولة، توحي قسماتها بسن الزهور وعذوبة الشباب، ربما في عقدها الثاني، ترتدي غطاء رأس وعباءة صوفية منسدلة تستر جل جسدها وتعلن انتماء صارخا للإسلام.. تمتمت شفتاي بصوت واضح على غير رغبة في النطق: – نعم أيتها الآنسة. صمتت لبرهة وهي تتفرس وجهي بتعابير جامدة، ثم نادى صوت شجي: – أنت مصطفى جبير أستاذ اللغة العربية، والكاتب الوزاني الذي تتصدر مقالاته صفحات الأدب والكتابة، أم أن البشر تشابه علي فمزجت القسمات وطرقت الباب الخطأ ؟ ارتفع الأدرينالين في دمي.. ودوى في داخلي صوت غضب مقيد، عجزت فيه عن إيقاف سيل الأفكار الجارفة التي تتابعت في غير تنظيم؛ لا بد أنها تريد صورة لتتبجح بها على رفيقاتها، تراني الآن كما لو كنت تمثال الحرية القابع بنيويورك، أو لربما برج إيفل بباريس، يا للإزعااج!! ليس لي وقت أضيعه مع هذه هي الأخرى، سأنسحب بهدوء.. – لا لست من تقصدين آنستي.. أعادت النظر إلي وانبعث صوتها الرنان مرة أخرى: – معذرة على الإزعاج أستاذ مصطفى.. وانسحبت بحركات رشيقة بين البنايات الشامخة، وتركتني أتابع في لا فهم ولا استيعاب.. حاولت طرد الحدث من الذاكرة التي تأبى النسيان، وانشغلت بمقالتي التي وجب تقديمها الليلة.. أرخى الليل ستارته الحالكة الظلمة، فتوجهت لمدينة العرفان ولمؤسسة محمد السادس بالرباط العاصمة على وجه التحديد حيث سيقام الحدث وأنا في كامل أناقتي. استقبلت بحرارة الأحبة والابتسامات التي أجد بها زيفا لا يخفى على عين خبيرة وغبطة تختبئ خلف كل تنميق يصل لمسامعي، وكالعادة مضطر لوضع ابتسامة تدربت عليها طويلا خلال مناسباتي السابقة كون هذه التجمعات البشرية لا تروقني.. تتابعت فقرات الأمسية، ثم وفي لحظة تمكن الملل مني، وبدأ فيها النوم يداعب جفوني بحلاوة وروعة الأحلام، أخفض ضوء الخشبة وبدأت تظهر صوري القديمة في ترتيب يصاحبها تعليق على كل صورة من فتاة تقف غير بعيد. حدقت بها بإمعان علّ الذاكرة تجود علي بمعرفتها، فإذا بها الفتاة ذاتها التي قابلتني صباحا!!!؟؟؟ بدأ كياني يتآكل من شدة الفضول.. فما استطعت صبرا فهمست بأذن الجالس على يميني: – من الفتاة؟؟ – اِسمها منى، لا أعرف عنها غير أنها كاتبة قصص قصيرة جديدة، لكنها اقتحمت الميدان بقوة.. تتابعت صوري وأنا في بداياتي حين كنت أستاذ ابتدائي. تبرعمت الذاكرة وأعادتني لزمن غابر.. تداعت الصور في مخيلتي، عادت إلي كل ذكرى بأحاسيسها وتفاصيلها في نوع من الاسترجاع اللاشعوري.. توقف العرض وتقدمت الفتاة بنظرة اشتياق حانية ممزوجة بأسف مبعثر، ونطقت بخفوت تجش له المشاعر الجامدة: – “تحياتي لأستاذي الغالي، ملهمي وقدوتي؛ السيد مصطفى جبير، الذي وددت وانتظرت لقياه طويلا وحين تحقق الحلم الأزلي لم يرد مقابلتي، سلامي على أول من أمسك يديّ الصغيرتين وعلمهما الطريق إلى النور.. إليك يا من رسمت لي جناحَي العلم فطرت بهما وحلقت في أفق لا محدود.. تلميذتك منى العامري”…
12:03