أنثى قوية في غربتها – رشيدة شرقاني

0
1022

نعم قوية.. قوية تلك التي تغربت في وطنها قبل أن تتغرب عنه وهي لم تتم بعد السابعة من عمرها، فارقت والديها الحنونين ظنا منها أنها ستتابع دراستها، لتجد نفسها متفرغة لتربية بني جلدتها متحملة أمورا فوق طاقتها.. أُهينتْ وضربت وقهرت وتألمت، ثم صبرت وتكتمت على كل ذلك. قامت بكل ذلك على وجه الواجب إكراما لصلة القرابة التي تجمعها بهم، لتجد نفسها بعد ذلك خارج بلدها بعدما حرمت من طفولتها ومراهقتها.
قوية تلك التي تغربت في عز شبابها وتركت أهلها وأصحابها ووطنها في الوقت الذي كانت فيه جدات خمسينيات ما زلن لم يستطعن العيش بعيدا عن أمهاتهن.. قوية تلك التي وجدت نفسها بين ليلة وضحاها وحدها في مواجهة مسؤوليات كبيرة، حياة جديدة وناس غريبة عنها.. تحاول التعايش والتأقلم والاندماج معهم بكل طاقتها.. قوية من مرضت وتعبت وحدها.. وذاقت المعاناة وحدها.. لا أم تسندها ولا أخ يقف إلى جانبها.. قوية من إذا جُرحت صمتت وتحملت ولم تحمل نفسها عناء طلب سيارة تاكسي تحملها إلى بيت أهلها مثلما تفعل الأخريات.. قوية تلك التي تمنت أن تبكي على ركبة والدتها لترتاح قليلا من كدر الحياة ولكن لا مفر.. قوية تلك التي انهارت مرات عديدة ولكنها عادت للوقوف على قدميها من جديد.. قوية من حين تذهب إلى المستشفى تجد المرضى محاطين بأهلهم وأحبائهم يخففون عنهم فتُسرها في نفسها.. قوية تلك التي شهدت أفراح وأحزان عائلتها من وراء الشاشة فقط.. قوية تلك المرأة الحديدية التي طُلب منها أن تكون صلبة فلا تشتكي..
قوية تلك التي كانت تتميز باجتماعيتها وحبها للبشر وصداقاتها الفريدة، لتجد نفسها وقد تحولت إلى شخص محاط بإخوة لم يلدهم لها بطن أمها إلا أنهم أحبوها في الله عكس من سهرت على تربيتهم ونشأتهم، فتنكروا حتى للسؤال عنها والاطمئنان على أحوالها..
قوية تلك التي تحلم بأن يُطرق بابها لتجد أحد أحبتها واقفا خلفه حين تفتحه.. تلك التي طالما حضرت تجمعات ومناسبات عائلية وحبست دموع عينيها كونها الغريبة الوحيدة بينهم.. قوية تلك التي تضحك وبداخلها ألف وجع.. قوية تلك التي عودت نفسها على ألا تعتمد إلا على نفسها مخافة أن تحرج أحدا أو تخذله أو تثقل عليه.. قوية تلك التي تعيش خوفا دائما من فقدان أحد أحبتها دون أن تراه.. قوية تلك التي في كل مرة تركب فيها الطائرة تتأمل وجه أحبتها وتقول في نفسها: “أخشى أن تكون هذه آخر مرة”.. قوية تلك الضعيفة التي تشجعك وترفع معنوياتك.. قوية تلك الهشة المتفائلة رغم كل الظروف..

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here