– من أنت؟
– انا شاعر أعيش هائما في عالم من المثالات، كل ما فيه كامل من الإنسان إلى الأشياء كلها.. شجر وحجر وبحر وسماء.. كل شيء جميل، لا تشوبه شائبة من نقص أو خلل حتى النساء كأنهن حوريات الجنان، فسبحان من خلق. أتجول هناك صبحا ومساءً وكلما سمحت ظروفي، أستغل كل لحظة يمكنني فيها ولوج ذاك العالم.
– يبدو انه عالم رائع بديع ولكن هل يرافقك أحد ممن تعرف في عالمنا الواقعي هذا أم هو عالم تدخله وحدك متى تشاء وتخرج منه وحدك متى ماشئت. وهل تملك مفاتيحه وأين تجعلها إذ تغادر ذلك العالم؟
– هو بالفعل عالم بديع مهما وصفته لن أستطيع حمل دماغك هذا على تخيل شيء لم ولن تعرفيه فأنت من عالم وذاك عالم آخر مختلف تماما.
وبالتأكيد أنا أدخله وحدي فقط. آه انتظري، لأكون صادقا طيفها فقط يرافقني.
– طيفها، من؟!
– أسطورتي التي رسمها خيالي، جعلها كملاك، بل أجمل. يا الله كم هي فاتنة! ملاك ولكن دون أجنحة!
– شوقتني لأراها، شوقتني ولو لنظرة واحده لها ولو من بعيد.
– حسنا، ما رأيك لو تصحبينني في هدأة الليل، نتسحب معا أنا وانت إلى ذلك العالم وترينها كما هي على طبيعتها.
– الليلة، لن اقبل بالتأجيل. ولكن المفتاح يا شاعرنا أين هو ذاك المفتاح؟
– أنت شخصية عجولة، شديدة التسرع في كل أمورك، لا أدري كيف وعدتك بمرافقتي إلى ذلك العالم وأنا أعرفك وأعرف صفاتك!
– المهم أنك قد وعدت، هيا بنا.
– هذا هو الباب ولا قفل له.
– نعم! أي باب هو؟
– باب مكتبي، تفضلي وادخليه بسلام آمنة مطمئنة.
– يا الله، كم هي رائعة هذه الغرفة، بديعة الألوان والتأثيث. هل نحن في حلم؟
– أبدا هذا مكتبي، وهذه مكتبتي، وهذا الكرسي المريح الذي أجلس عليه، وتلك هي الأريكة الضخمة التي أمدد جسمي عليها عندما أريد أن أدخل إلى ذلك العالم وحدي.
– وكيف سأدخله أنا معك إذا، هل سأدخل دماغك أم صدرك أم ماذا بالضبط؟
– الم أقل لك أنك متسرعة.
– تقول أنني متسرعة وأنا حتى هذه اللحظة لم أعرف اسمك ولا من أي بلد أنت، ولا طلبت منك أية معلومات عنك! كل ما هنالك أنني صادفتك تحمل بيدك كتابا أهديته لي فقرأته وأعجبت بمضمونه فسألتك من أنت وأجبتني بأنك شاعر، دعوتني إلى مكتبك لأدخل عالمك فلبيت الدعوة. لحظة من فضلك، قلت أنك تعرفني حق المعرفة فكيف ذلك ونحن لم نلتق إلا منذ فترة قصيرة!
– ولهذا وصفتك بانك متسرعة فرغم أنك لم تتعرف عليّ بعد أجدك تودين معرفة كل شيء عني دفعة واحدة ودون سابق إنذار وكأن هذا الكل مجرد صندوق ما عليك إلا فتحه والنظر في محتوياته لا غير.
– صدق تشبيهك هذا. فأنت بذهنك ووجدانك، بذاتك ككل بالنسية لي كصندوق أود فتحه والاطلاع على محتواه دفعة واحدة.
– مستحيل طبعا.
– قد جفّ ريقي ولم نبدأ رحلتنا بعد. هيا بنا لنبدأ.
– افتحي درج مكتبي هذا. واستخرجي الملفات التي فيه ثم تعالي لنجلس سويا هنا على الأريكة.
– هذا ملف كبير جدا، وهذه أولى اوراقه. هي قصيدة!
– اقرئها..
– وهذه قصيدة أخرى، وهذه أخرى وأخرى، وهذه رواية..
-عندما تنتهين منها جميعا تعالي وجالسيني ها هنا على هذه الاريكة.
– أتدري كم من الوقت ستأخذ مني قراءتها؟
– ولكن لا بد من ذلك.
-حسنا، سآخذها كلها وأنزوي زمنا لا بأس به لأقرأها جميعها وأستوعب محتواها.
بعد عام تقريبا تقابلا، وكان الشاعر قد كتب مائة قصيدة أخرى. وقفت أمامه وهي تحمل قصائده الجديدة، أودعتها خزانة مكتبه ودفعت به إلى الاريكة وهي تقول: بل سأفتح دماغك وصدرك هذه المرة، لن اقرأ قصائدك الجديدة هذه، لقد عرفتها تمام المعرفة تلك المثال الملائكي الذي أحببت. اجلس هنا، انظر ما أحضرت معي. نظر إليها مستغربا متسائلا: ما كل هذه الأجهزة التي أخرجتها من حقيبتك.
– هذا آخر ما توصل إليه علماء التكنولوجيا، تضع أنت هذا الجهاز حول رأسك وأضع انا الجهاز الآخر حول رأسي وهذا الشريط الكهربائي يصل بين رأسينا. ثم هذه المجسات خذها وضعها فوق صدرك حيث تستشعر دقات القلب والمجسات الأخرى أضعها أنا فوق صدري وتتصل المجسات كلها بقناع الرأسين. وبهذا يصبح كل ما تسمعه وتبصره وتفكر به وتستشعره ملأ سمعي وبصري، أشعر به كما تشعر به تماما، حتى وإن تألمت أنت او فرحت أتألم أنا وأفرح.
جلسا على الأريكة وأغمضا عينيهما. شعرت جليسته بأنها وهو قد خرجا من جسدهما كومضتان من نور، كتلتا ضياء، شخصان نورانيان تشكلا من جديد. هما هما لم يتغير من معالمهما شيئا، لكنهما لا يشعران بأي ثقل لجسميهما. أرادت أن تتأكد أنها هي ما تشاهد وأنه هو، مدت يدها لتلمس جسده لكن يدها لم تصطدم بشيء لكنها أحست برعشة لذيذة لم تشعر بمثلها من قبل فاختلج قلبها في صدرها وازداد الضياء الصادر عنه. كانا في تلك اللحظة قد اقتربا من باب خشبيّ عليه قطعة مستعرضة من الخشب ذاته وقفل صغير. استغربت كيف يكون مثل هذا الحاجز موجودا في عالم نوراني كهذا. لكنه طمأنها بأن هذا الحاجز سيختفي بمجرد نطقه بكلمات فقد كان المفتاح قصيدة ألقاها بصوته المتهدج فإذا بالباب الخشبي يتحول إلى طائر ضخم نصب فوق ظهره كرسيا يتسع لاثنين، حوّم الطائر بهما فوق جنائن أرضها من الفيروز والياقوت واللؤلؤ والمرجان وكأنها زهورا قد نثرت فوق بساط أخضر. الأشجار تحمل من الثمر ما لا عين رأت في دنياها ولا سمعت به الآذان. لا بالطويلة ولا بالقصيرة الجذع، ولا بالكثيفة ولا بالقليلة الاغصان. طيور ملوّنة وزقزقات عصافير ونسائم تهب محملة بشذى الزهور أبنما يتجهان، لا شمس في ذاك العالم لكن النور والضياء ينتشر في كل مكان. لا حر ولا برد ولكن شيء من انتعاشة فجر دائم لا يتحول إلى ضحى ولا إلى مساء. انتهى بهما الطائر عند جدول ماء تصب فيه بعض الشلالات مصدرة صوتا كأنما يعزف على أوتار القلوب موسيقى نشوة وفرح. ترجل الشاعر ومرافقتة في رحلته، وما أن وطأت قدماهما أرض تلك الجنان حتى شب شعور بالبهجة سلبت ما تبقى من لب كل منهما ليجدا أمامهما كائنا كأنه إنسان وما هو بإنسان. ملاك لكنه أقرب إلى شكل حورية بشرية، مجرد النظر إليها متعة، ترتدي فستانا خمريّ اللون شفافا على جسد ياسمينيّ. وشعر هو وحده الليل في ذلك العالم. بُهتت مرافقة الشاعر وتحسست جسدها لتستشعر هذا الفرق الهائل بينها وبين تلك الأنثى. آه ما كل هذا الإختلاف. هو بالفعل كما قال الشاعر عالم آخر، وأنثى لا كما نساء عالمنا الواقعي الذي نعيش حقيقته. اقتربت الحورية من مرافقة الشاعر وقالت بصوت هامس هو موسيقى وحده: أهلا بك في عالمنا، لولا تلك المكانة الرفيعة التي يضعك فيها “آدمي” لما حلمت مجرد حلم أن تطأ روحك هذا المكان يوما. تفضلي هنا بجانبي.
كان بساطا من زهور وورد واوراق نباتات ملونة، ووسائد من ريش نعام، والضيافة كؤوس شراب وطعام وماء، يستحيل أنه ذات الماء الذي نشربه. ثم جولة في الحدائق على الأقدام لكن دون تعب أو إحساس بالوقت. هي ملتصقة به حتى ليكاد جسداهما يتداخلان، لكن الغريب في ذلك العالم أن لم تشعر الحورية او المرافقة بالغيرة ولا هو تحول نظره عن أنثاه تلك. وقبل أن يغادر الشاعر ومرافقته ذاك العالم أمسكت الحورية بيد الشاعر، جذبته نحوها وقبّلته لتودعه ودموعها تتساقط كحبات لؤلؤ تمنّت المرافقة لو تستطيع جمعها لتصنع منها قلادة. لكنها بالتاكيد ستفعل، ستنظمها كلمات.
أمسك الشاعر بحوريته وحضنها وحملها كطفلة بين يديه يود أن يغادر بها ذلك العالم إلى دنياه، لكنها كما في كل مرة تحاول أن تذكره بأنه لو حملها فعند الباب الفاصل بين العالمين ستتلاشى منه. طلبت منه – كما في كل مرة – قبل أن يغادرأن يبقى في عالمها فأخبرها أن هذا مستحيل، وأن لا بد له أن يغاد وسوف يعود. توسلت إليه، وزاد نحيبها ارتفاعا كانه صوت الناي، لكنه ردد لا يمكنني ذلك، هذا مستحيل. احتجت، تمسكت به، أبدت غضبها الشديد، هزته بعنف، بكى وتوسل إليها أن اتركيني، سأغادر لكنني سأعود. وإن لم تعد ما افعل بعدك وقد سلبتني عقلي وسرقت قلبي، وامتلكت روحي. وعندما أدركت أن لا فائدة قالت له ودّعني بقصيدة أرددها طالما أنت غائب عني، لأستشعر وجودك من خلال كلماتك التي ترافقني في صحوى ونومي. فأنشدها:
بعض المواجع أنت ِ
بل كل المواجع أنتِ
بل أنت الوجعْ..
محراب قلبي من دموعك
من أنينك قد وقع
إني ابتساماتٌ
فخلّي الحزن
يُخفِضُ ما ارتفعْ !
القصيدة للشاعر “أحمد حضراوي”
والرحلة الإفتراضية في وجدانه