لم يخطر بباله يوما ما، أن يصبح مشهورا، ولم تكن الشهرة في أجندة انشغالات خيالاته الطفولية، هو ابن السبعة عشر ربيعا، الخجول المنزوي، المنطوي كثيرا على نفسه، حتى وهو برفقة شباب من جيله.. كيف يمكن أن يكون غير ذلك وقد حرم عطف وحنان أبيه، وهو لم يتعدّ وقتها السبع سنوات، حين تخلى الأب الجندي عنه وعن إخوته وأمه، وفضل الزواج من مومس بمدينة أگادير السياحية الجميلة القريبة من بوابة الصحراء الغربية، حيث كان يقضي كل رخصه العسكرية معها بنفس المدينة، ويكتفي فقط من حين لآخر بإرسال القليل من المال لزوجته الحقيقية، كانوا أربعة بالبيت هو أكبرهم وأخت تلته وأخوين توأمين (آخرا العنقود..)، واللذين كانت تقول عنهما الأم دائما، إنهما جاءا إلى هذه الدنيا اللعينة عن طريق الغلط في الحساب بين فترة للعادة الشهرية النسائية وفترة الخصوبة، وقد حصل الخطأ ذات ليلة حين، عاد الأب الجندي من الصحراء الغربية دون سابق إنذار ..
الصحراء الغربية منطقة النزاع السياسي مع الدولة الشقيقة الجزائر، والميداني مع مرتزقة من الماويين ممن كانوا يعتقدون أن فك الصراع الطبقي مع النظام المخزني الحاكم، يجب أن يكون ذَا جبهتين، داخلية وخارجية، تأسيسا على فحوى المقولة الماوية:
“ضربة من الخلف، وضربة من الأمام ليسقط النظام”.
وجدت الأم صعوبة كبيرة في التكيف مع معطيات الحياة الجديدة الطارئة، بتخلي زوجها عنها وعن أولادها، و ما زاد من معاناتها كغيرها من النساء الأرامل والمتخلى عنهن، تنكر الإدارة العسكرية لهن في إنصافهن لتجاوز محن أزمات مالية لم تكن أبدا لتخطر لهن في الحسبان..
فالبيت الذي تقطن فيه رفقة فلذات كبدها.. اكتراه الزوج ذات زمن، فصار لزاما عليها تسديد خمسمائة درهم شهريا ثمنا لإيجاره إن أرادت الحفاظ على سقف يحميها وإياهم من الضياع، ناهيك عن فواتير الماء والكهرباء، هذا من دون الحديث عن تغذية الأطفال، ومتطلبات عيشهم الصعبة، وهذا ما دفع بالأم المسكينة للاشتغال ببيوت الجيران مقابل دراهم معدودات.
مرّ هذا الوضع الثقيل لما يربو عن السنة والنيف، لتجد الأم نفسها مرغمة على دخول مجالٍ وسخ، متعفّنٍ ، ولا إنساني، والأنكى من كل هذا وذاك.. إنه مجال معقد التفاصيل.
أصبحت الزوجة تبيع جسدها لكل من يدفع مقابلا ماديا لذلك، توسعت دائرة زبناء المرأة لتشمل حتى بعض مراهقي الحي ممن لا سلطة لأسرهم عليهم، والذين يمتهنون أيضا أعمالا خطيرة جدا كصناعة الكحول “الماحيا” والاتجار في مخدر الحشيش والأفيون..
شاع الخبر في الحي، كما تشيع النار في الهشيم، ليصبح اسم المرأة المسكينة حديث كل لسان وتنتقل سيرتها للأحياء المجاورة..
ذات ليلة من ليالي تموز، حدث ما لم يتوقعه أحد من سكان الحي، كان ولدها الأكبر سنا خارج البيت يجلس مع بعض أصدقائه على طوار منزل قريب من سكناهم، هاربا من وضع البيت المزري وحرارة الصيف المفرطة..
وقتها كانت الأم بأحد الفدادين بالغابة الكبيرة التي تحد الحي غربا مع زبون شاب من شباب الحي المتصعلكين تبيع له جسدها المنهك بجسامة الوضع المادي المتردي جدا، في غياب أي شغل يحفظ كرامتها وكرامة أبنائها..
بعد منتصف الليل، جاءهم الشاب نفسه. وقد كان ثملا جراء تعاطيه للمخدرات والمشروبات الكحولية التي كان يصنعها بنفسه ويبيعها للزبناء من أهل المدينة..
أخذ مكانه بالقرب منهم، وبدأ يحكي لهم عن مغامراته مع السيدة، فيما ولدها المسكين الخجول المنكمش على نفسه يتوجع بشكل رهيب، وقد تملكته نوايا متناقضة، لم يسبق له أن فكر لحظة ما فيها..
طفق يرسم خطته لرد اعتباره، أمام الفضيحة التي رواها الشاب المتصعلك أمامه وأمام كل الحاضرين بشكل فاضح و مستفز جدا..
انتظر (سعيد) مغادرة رفاقه المكان، مستدرجا الشاب الثمل لإكمال السهر سويا، طالبا إياه بجلب كمية من (الماحيا)، للسكر معا..
بعد لحظة ذهبا إلى بيت الشاب، وجلبا المطلوب، وعادا إلى مكانهما، وابتدأت السهرة، وسعيد يركز جيدا كيف سينتقم من هذا الشاب الذي أذله أمام رفقائه..
لم تمض إلا دقائق، ليقف سعيد وكأنه يبحث عن شيء ما ضائع في جيوب سرواله الرياضي الأزرق، غير أنه كان فعلا قد سحب حبل سرواله من محزمه، وخبأه بجيبه الأيمن، وبسرعة خاطفة استدار وراء الشاب الثمل، ولفّ الحبل حول عنقه، مثبّتا إياه بركبتيه كلتيهما، ليرديه على الطوار جثة هامدة، ويحمله على أكتافه واضعا إياه خلف جدار مقر مديرية شرطة الحي..
وعند الصباح الباكر سلم نفسه دون عناء لشرطة نفس المديرية..
وبنفس اليوم أحضروه لتمثيل وقائعها، تجمهر أغلب سكان الحي في ساحة واسعة خلف المديرية.. والكل متحمس لمعاينة التمثيل، فيما عائلة الضحية ينتحبون ويصرخون وقت إحضار سعيد الذي أصبح مجرما قاتلا من دون رغبة مسبقة، لولا أن الضحية تمادى في استفزازه أمام رفقائه..
حوكم سعيد بــ “خمسة وعشرين عاما حبسا نافذا”، ولأنه يعتبر قاصرا رحلوه إلى لإصلاحية بمدينة مكناس، ليعيدوه لسجن المدينة وقد وصل سن الرشد بعد عام واحد..
سعيد والشاب المقتول ضحيتان معا والقاتل الحقيقي لا أحد يشير له بالبنان..
الأب هو قاتل حقيقي بتخليه عن أسرته، والدولة قاتلة رمزية للجميع، بتعمدها تزييف الصراع الحقيقي.. لتظل الجريمة مستشرية بين الناس، ويبقى الحلم بالحرية والكرامة قابعا في زاوية مظلمة من الوعي الاجتماعي للرعاع.. فطوبى لكل الضحايا، لمن قتلوا، ولمن اعتقلوا، ولمن تمّ مسخ هويتهم الإنسانية للأبد..