اختلج قلبها بين الضلوع، زادت دقّاته. ارتعاشة مسّت جسدها من أخمص قدميها حتى منابت الشعر في رأسها. نشوة اهتزّت لها أعمق خلاياها غورا في جسدٍ ما عرف مثل هذا الشعور يوما. ثقلت جفون عينيّها وهي تسحب يدها إليها كأنما ارتكبت إثما تودّ الخلاص منه!
كانت قد ناولته دراهم معدودات لصالح جميعية تهتم بلقطاء الطفولة البائسة، أولئك الذين لم يُعرف لهم والدين ولا أقارب.
بعد أن استردت توازنها سألته: وهل تستطيع أم أن تلقي بفلذة كبدها ها هنا بعيدا عنها؟! أجابها: ليتهن يفعلن ذلك فقط، لكنهن يُلقين بقطع الجمال هذه في مكبات النفاية وفي الطرقات وأمام المساجد والبيوت في أوقات تخلو فيها هذه الأماكن من الناس. ونحن نستقبل كل طفل يتم التبليغ عن تواجده في تلك الأماكن، نعتني بهم بمساعدة من الدولة، لكن تلك المساعدة وحدها لا تكفي فنجمع من المحسنين أمثالك أو ندعوهم للانخراط في مساعدتنا بجهدهم، يعلمون الأطفال أو يعتنون بهم تطوعا، لكن معظم من يبدأون بالمساعدة يغادرون سريعا.
سألته: تُرى لماذا؟!
-لأن العمل مع هؤلاء الأطفال شاق، هم مشاكسون دوما بسبب افتقارهم لحنان الأم بالذات. معظم أمهاتهم لا يرضعنهم أبدا بل إنهن لا يحتضنّ أطفالهن ولو لمرة واحدة وقد لا يرونهم كي لا يتعلّقن بهم.
– مؤكد أنهن يتألمن لذلك أشدّ الألم، فالوليد قطعة من والدته، نمت في رحمها، وأصبحت كما الأحشاء، خروج الوليد منها انتسال بعض من روحها ولذا تبقى متعلقة به وهو متعلق بها أبد الدهر.
– صدقت، لكن الألم الذي تعانيه تلك النسوة إذ تقرر الإحتفاظ بدليل إدانتها في مجتمع لا يرحم ضعفها ولا ضعف وليدها، ويلصق بها أقبح النعوت يدفعها للتخلص من نفس نمت في كهف ذاتها.
– ما أنبلك سيدي، أوتفعل ذلك كله لوجه الله دون انتظار جزاء من البشر؟!
نظر إليها بزهو ودعاها إلى مكتبه. جلس بجانبها وبدأ ينظر إليها والشهوة تكاد تقفز من عينيه اللتين بدتا لها كعيني ذئب ينتظر وجبته الدسمة، لكنها كانت مأخوذة به، مستسلمة. مدّ يده بورقة طالبا منها التوقيع عليها. أمسكت بها وقرأت مضمونها الذي يؤكد على أن من سيقدم المساعدة إلى أبناء هذه الجمعية عليه أن يلتزم بذلك لمدة أقلّها ثلاثة أشهر يتقاضى فيها عن كل شهر ألفا درهم مقابل عمل ساعتين في اليوم فقط.
استغربت العرض فهو عرض مغر مقابل خدمة بسيطة كهذه. ستسدد بعضا من ديونها، ولا بأس بتجربة العمل هنا لهذه الفترة المحدودة، فإن لم يعجبها الوضع ستترك العمل دون مشاكل طالما أن الإلتزام محدد بزمن معلوم، فلمَ الخوف ولمَ التردد.
وقّعت العرض وسلّمته العقد. عندها ابتسم ابتسامة عريضة وأمسك يدها ليدخلا بهوا واسعا تتوزع في نهاياته عدد من الغرف لم تتمكن من عدّها لكثرتها، لكن ما أثار انتباهها تلك الكاميرات المزروعة في كل زاوية في هذا البهو. رأت العديد من السيدات الحوامل والقليل ممن هن دون حمل. فسألته: ما شأن هؤلاء النسوة؟
أجابها: هن يأتين هنا ليضعن أبناءهن ويختفين عن الأنظار، يضعن أحمالهن مطمئنات ويقمن بتربيتهن بأمان دون تلك النظرات التي تحتقرهن.
-: يا لك من شخص عظيم!
– الغريب أنني لم أرَ هنا رجلا غيرك!
– صدقت سيدتي فأنا هنا وحدي من يمثّل الأب ويعوض الجميع عن وجوده.
سارا معا وهو يشرح لها طبيعة وجوده في هذا المكان وطبيعة العمل في الجمعية حتى وصلا إلى إحدى الغرف. كانت فارغة إلا من أثاثها البديع. سرير تعلوه لوحات لفاتنات، أواني من الزهور الطبيعية، تتوزع في أنحاء الغرفة، وشاشة تلفاز من أحدث ما أنتجته التقنية المعاصرة. وكميرات على حواملها في كل الزوايا والسقف. استغربت وجود مثل هذه الغرفة في مكان لرعاية اللقطاء وسألته: ما هذه الغرفة ولمَ نحن فيها؟!
– لا تخافي نحن هنا فقط لكي أريك شيئا ما. شغّل آلة العرض فإذا هي ذاتها في وضع غريب مع شخص لم يسبق لها أن التقت به يوما. لكن المرأة هي ذاتها. نظر إليها بتشفٍ وقال: هذا عملنا سيدتي، لن تخرجي من هنا، أنت أسيرتي أبد الدهر.
صرخت بأعلى صوتها فزعة ممّا حدث لتستيقظ فإذا بها على سريرها في غرفتها وليس من أحد بجانبها وقد نامت بكامل ثيابها بعد عمل يوم مجهد طويل في دارٍ لرعاية اللقطاء في بلدتها.
حمدت الله أن تلك الاحداث إن هي إلا حُلما كما الكوابيس انتابتها بعد معاناة العمل مع أولئك الاطفال. وما كان عملها إلا عمل يوم تطوع واحد لا غير، لكنها قررت لرهافة حسها وشكّها بمدير الدار أن لا تعود إليها أبدا.