هذه المحاضرة القاها الدكتور محمد كنوف بالمقهى الأدبي الأوروعربي احتفاء بدورته الأربعين:
للخوض في المسألة الثقافية المغربية مسالك شتى وشائكة بقدر تنوعاتها وإشكالاتها، وفي هذا التدخل البسيط سوف لن أعود بالمهتمين إلى المسار الثقافي المغربي تاريخيا، فالمهتمون يعلمون بدايات تكوين المجتمع المغربي على اختلاف مشاربه وأصوله، من بربر أمازيغ، عرب وأفارقة وزنوج. فالجميع ساهم بقدره في تكوين أنساق الثقافة المغربية، واجتهد بحسب ما أوتي من فرص لاستتبابها وتأصيلها.
إلا أنني سأعرج مباشرة إلى الحديث عن المسألة الثقافية بمفهومها العام، بالصورة التي نراها اليوم أو بالأحرى التي صارت عليها في وقتنا الراهن.
أقول بداية، إننا الآن محاصرون بتشعب المشهد الثقافي في المغرب، نظرا للاختلاف الكبير في مصادر تكوينه وتنوع الاشتغالات عليه. فالملاحظ الذي يهمه أمر الثقافة المغربية، يقف أمام مفترق طرق وكأنه في رحلة التيه بلا دليل. فالأصول للثقافة المغربية هدمت تماما بأيدي من تعاطوا للسياسة وبصوت من حاولوا وضع هذه الثقافة على السكة الصحيحة في مسارها التاريخي والبنيوي.
فنحن نرى مبدئيا أن المثقف هو من يقود رجل السياسة، فهو صاحب الفكر والرؤية والنمط الخلاق للفكر، بينما السياسي فهو المتلقف لما يصدر عن المثقف وينضبط له. إننا أمام صورة معكوسة تماما، فلاحظنا سقوط المثقف في أحضان السياسي إذ أصبح منقادا له ولرغباته المتعددة، وهذا يفضي بنا إلى ملاحظة سلوك ثقافي متواضع إلى درجة الإنحطاط.
الصورة انعكست، وكانت بدأت في الخفوت منذ بدايات الاستعمار على المغرب، فقد حاول المستعمر بشتى الوسائل أن يهدم الثقافة الوطنية ويعوضها بأساليب ثقافية مستحدثة، ظاهرها التحضر والتقدم في التنويع وتوسيع الأنساق والرؤى، أما باطنها فكان عبارة عن معول ضخم هدم كل ما هو أصل بخلق نمط تعليمي حديث يتيح للمنظومة الثقافية أن تتبلور لخدمة الاستعمار وذيوله وخدامه من عائلات الأعيان، فخلقت مدارس على نمط أوروبا، وتغيرت المناهج التقليدية المشبعة بالحس الوطني آنذاك إلى مناهج سوسيوبيداغوجية لتخدم أهداف المستعمر حاضرا ومستقبلا، وبدأت في هدم الحس الوطني المتمثل في التعليم التقليدي المناهض للمعمر والذي كان يشع من المجاميع القرآنية والزوايا ومن جامع القرويين. إضافة إلى كسر النمط الاجتماعي لدى الشعب المغربي وجعله يعيش استلابا ثقافيا، وهو الأمرالذي هدف إليه المعمر. حتى الإدارة المخزنية لعب فيها المعمر بيديه الهادمتين فجعلها في صورة وضيعة تجمع ما بين التخطيط التقليدي والرؤية المعاصرة المتحضرة بين قوسين. وهذا المشهد جعل ظهور طبقتين من المشتغلين والمنشغلين على حقل الثقافة المجتمعية المغربية. فمنها أن صعد صوت بعض المفكرين وأتباعهم من فئات الشعب الذين حاولوا تأسيس فكر تحريري والدعوة إلى الجهاد، وكان مساندا في ذلك من طرف بعض الزوايا والرِّبط الدينية والتي أصبحت وانقسمت بعد ذلك، إلى إعادة تأسيس فكر الصوفية التي لعبت دورا هاما في انحراف القصد الثقافي للمجتمع إلى فكر اتكالي، وإن لم تكن كل الإتجاهات الصوفية قد انخرطت في هذا الدور.
إن مسألة الثقافة المغربية، حالة مورس عليها الظلم والعنصرية، ومما لا شك فيه أن أصوات تحررية كتبت وناضلت من أجل الوقوف في وجه هذه الأشكال الهدامة التي أتى بها المستعمر، ومن الفئات التي أسست لصوت جديد في التعبير عن مسار تصحيحي للمسألة الثقافية في المغرب، فظهرت عناصر تحمل الفكر التحرري الأممي، متشبعة بالفكر الماركسي والمقاوم سلميا. ظل هذا التيار إلى بداية الثمانينيات نشطا في أحزاب سياسية وجمعيات متنوعة وأفراد غير منتمين لأية جهة تأطيرية.
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى حالة الصراع الذي دام طويلا بين المنتصرين للفكر التحرري وبين المناوئين لهم من جهة، وبينهم وبين السلطة السياسية. فالصراع ما بين السياسي والثقافي كان على أشده، فكانت الحكومات المغربية تحاول أن تعزز مفهوم السلطة سياسيا، ونجحت في حالة خضعت لسلطتها أصوات كانت يسارية وغيبت أصوات أخرى بطرق متعددة.
هذا المشهد أجج الصراع بين السياسي والثقافي، وأفرز نتاجات ثقافية هجينة لا تمت إلى المشهد الثقافي العام بأية صلة، دافعها فقط البحث عن المال والجاه، فشجعت السلطة السياسية الفن المنحط، وانتفت مسألة القيمية الفنية والإبداعية، وتلك تجربة نجحت إلى حد الآن .
إن مفهوم السلطة، أصبح كائنا حاضرا في الثقافة المغربية بشكل صارخ، فلكل فئة سلطتها ولكل جهة أيضا سلطتها، فاشتد الصراع التكتيكي الذي أدارته السلطة المخزنية الأم. فكانت للسلطة السياسية أصوات تنظّر وترسم الاستراتيجيات مدعومة طبعا بالمال المخزني والريع، فازداد عدد الأحزاب المتنافسة على السلطة الصغرى، وأطلقت هذه التسمية كون السلطة المخزنية السياسية هي الأم وهي مدبرة الشأن المغربي على كل الأصعدة. فنبتت طفوليات ثقافية وجمعوية وحزبية حلحلت الوضع الثقافي والاجتماعي وخلطت بين المفاهيم والرؤى، واستفحلت ظاهرة جديدة بشكل علني والتي تسمى بالتحكم. هذا المفهوم الذي ظهر كالسحر في يد كل فئة سياسية واجتماعية، وكل واحدة استخدمته لصالحها في حالة العجز عن المنجزات. حتى السلطة السياسية استعملته دليلا وحجة أمام عجزها عن إحداث أي منجزات كان الشعب المغربي يتوق إليها.
هذا المشهد الذي استفحل في الحياة الثقافية المغربية، ولد بدوره انحلالا سياسيا، فتكاثرت الأحزاب التي أفرغت كاملة من مضمونها التعبوي، فأضحت السياسة عندها محصورة بحالة واحدة وهي الصراع على الإنتخابات، لأن تكوينا جديدا ظهر مصاحبا لمفهوم التسلط والانتفاع الشخصي من الريع الذي فتحت أبوابه على مصراعيها، بمعنى أن أي سياسي لم يعد يجتهد في القراءات المتنوعة ولم يعد يجتهد في التثقيف الشخصي أو الاستراتيجي، كأن كل النظريات والحركات السياسية اختزلت في التسابق إلى خيرات النفع والانتفاع من مال الشعب. بينما أصبح هذا المشهد ملازما لحالات مجتمعنا كاملا. فالسياسيون أصبحوا أكثر تحكما وثراء وسلطة، بينما حوربت الفئات المتوسطة فمحيت من السلم الثقافي الاجتماعي في لحظة انغماس المجتمع في دوخة العولمة التي لم يفهمها الشعب كله، إلا فئة قليلة متنورة ومنتبهة للمتن الثقافي المعاصر بكل أشكاله .
انفتاح أم انحلال ثقافي؟
ليس هذا سؤالا تقليديا من ضمن أدبيات البحث والتنقيب أو التمحيص والتحقيق بقدر ما هو صدمة حداثية بامتياز، إنه المشهد الواضح اليوم في المجتمع المغربي. صورة صارخة بكل حمولتها السلبية. فبينما كان الشعب يأمل في انفتاح ثقافي عام، وتطلع إلى غد أفضل على جميع الأصعدة، أصيب بضربة قاصمة. إنها طلقة الحداثة التي أولها المندسون في المشهد السياسي إلى المجتمع قصد جره إلى محو كل ما يربطه بثقافته الأصيلة والتي كونها على مر سنين وعقود، وأعني أن شرائح المجتمع المغربي تشتت كل عراها التي جمعتها لسنين وشتت قواها المتظافرة للمضي بأصالة الحياة الثقافية إلى معاصرة راقية ومدنية. فتكونت دلائل واضحة على أن المشتغلين ضد رقي المجتمع المغربي كانوا بالمرصاد لأية حركة مجتمعية ثقافية تسير بالمجتمع إلى الأفضل والرفاه. كما أن الجماعات أو اللوبيات التي حرصت على حماية مصالحها العامة، تفانت في خلق نموذج اجتماعي وثقافي هدام أساسا وبمعطيات تغري الطبقات المجتمعية. فكان أن فككوا كل قواعد اجتمع عليها هدف المجتمع من أجل النهوض به، فحلوا الجمعيات الثقافية الهادفة والأمثلة كثيرة على ذلك، فقسوا من الأحزاب بيضا مهجنا لتولد تجمعات حزبية لا محل لها في المشهد المجتمعي السياسي الحقيقي. والهدف من كل ذلك هو تفريق صوت الشعب في انتخاب سياسيين ديموقراطيا، وكأن سياسة المعمر “فرق تسد” ما زالت تشتغل على صعيد إفراغ صوت الشعب من مضمونه الاتحادي والحر.
لكن الطامة الكبرى التي أصيبت بها مظاهر ثقافتنا العامة هي الانفلات القهري، وهي ظاهرة تحدي وتجاوز كل ما هو فكرا منظما لعقل الإنسان المغربي، وبالتالي جعله يدور في حلقة مفرغة حول نفسه لينزل بمستواه إلى الحضيض. الانفلات المقصود هنا هو نقطة كهرباء ضربت المجتمع المغربي من أوله إلى آخره، يسروا له الطريق إلى عالم التمدن تحت شعار التنمية الفارغة من مضون للتنمية، الدفع به إلى معانقة العولمة التي هبت كالصاعقة على المجتمع بينما القاعدة العامة من الشعب المغربي لم تكن مستعدة للتواصل مع التكنولوجية الحديثة بسرعة البرق، وكان في ذلك ضرب من خبل. وما نراه اليوم من إفرازات ثقافية مميعة في مجتمعنا إن هي إلا صورة بلا روتوشات على العقل المغربي العاجز عن النهوض بالتحليل والتمحيص لما يحدث فيه من مظاهر الضياع.
ومن الضربات القاسية التي أحدثت في ثقافة مجتمعنا، تلك التي مست الحقوق الفردية والحريات الحقيقية، فأسندت أمور تسيير الحكومات المتعاقبة إلى أشخاص لا تجارب لهم سوى أنهم تكونوا في غالبيتهم خارج الوطن ليعودوا مسيرين ومدبرين للشأن العام، على جميع الأصعدة. فهبط ميزان القانون وإجراءاته وتوسع التأويل النصي والشرعي إلى درجة الانفلات والانحلال ، سوقوا لسلطة دينية جديدة بأبواق أخلطت المذاهب والمتون، وسخروا جهلة كحجرة عثرة في طريق نمو المجتمع والسعي أماما إلى التطور، خلق ظواهر الصراعات العرقية بين فئات شعب واحد ومجتمع واحد، كالنزعات القبائلية والعصبية، وكل ذلك تسخير لأجندة كانت تشتغل عليها الطبقة العليا للقبض على السلطة السياسية واستغلالها لفئة متحكمة. فصارت أمور البلاد كلها في بوتقة تضج بالصراعات والمنافسات في الريع وتحكم في قرارات حاسمة وبتوصيات خارجية أيضا والتوقيع عليها.
كان هذا فقط ذكر لبعض من كل، من حيث الكم الهائل من المشاكل والانحرافات التي طالت المجتمع قاطبة.
الورشة الثقافية الخاصة:
وأقصد بها مستوى الاشتغال بالثقافة والفنون والإبداع. كان من المؤمل أن نعيش ازدهارا ثقافيا إبداعيا راقيا، لم تقدنا هواجسنا إلى التيه الثقافي والميوعة بقصد، ونحن الذين عاصرنا المخاضات الثقافية والصراعات الحقة في دوائر منبرية ودور صحفية ومسالك إبداعية، لكننا أصبنا بالفشل الثقافي الذي قضت علينا عدواه الدخيلة من خارج المحيط الثقافي. فصارت الانشغالات الثقافية والإبداعية توزن بفلسفة الإخوانيات والمحاباة والتصنع والتقرب زلفى إلى من بيدهم زمام القرار الثقافي. وحط المشتغلون في أعلى هرم السياسة بكل ثقلهم في المشهد الثقافي، فأتوا بآليات هدامة وأشخاص يغمرهم الجهل المركب وأميين فكريا، ووضعوا في باب الحقل الثقافي حراسا بهراوات لغوية ضاجة بالقتل النفسي والأدبي. والصورة التي أصبح عليها المشهد الثقافي المغربي خير دليل على ما قلناه مرارا وتكرارا داخل المغرب وخارجه، إذ كيف يعقل أن تصرف أموال على برامج ثقافية فارغة المضمون بسخاء، بينما رجال مثقفون وصالحون لتصدر المشهد على صعيد الدنيا كاملة، قابعون في الظل ولا يسمع لهم صوت. نحن نعرف أن الأمور تسير بطريقة معوجة وفاسدة، وأسوء ما يصاب بالفساد، الجسم الثقافي.
ليس هناك فرق بين مثقفي الداخل المغربي وخارجه، كل المشهد موحد وكله مريض بالتفاهات على مستوى الإبداع، ومريض أيضا على مستوى الرعاية النوعية من طرف السلطات المختصة. وأكبر طامة لعبت دورها وبفعالية هي يأجوج ومأجوج الإعلام الطفيلي الذي فتح باب النشر لمن هب ودب وبلا قابلة متمرسة تولد الأسماء الإبداعية ميتة. هذه الصورة طبعا مقصودة جدا لذاتها لتوظف كسم لقتل الحياة الثقافية فينا. غيبت أسماء إبداعية وازنة، سلط النقد الغوغائي على منجزات راقية وفاعلة ثقافيا حتى لا تعمل الثقافة في المجتمع بالشكل الصحيح، خلق قطيعة بين المتأصلين في الفعل الثقافي وبين اللاحقين المتأخرين وخلق صراع بينهما، إذ يكون الموت لكل الفئات ثقافيا. خلق بؤر وحوزات تحت مسميات شتى وبدعم مادي سخي لجمع ما يمكن جمعه من الأصوات الفكرية والاستحواذ عليها بهراوة التوجيه المدعوم سياسيا وبإغراءات منصبية ومالية هامة. والأمثلة على ذلك كثرة الملتقيات في كل مدينة، تفريق الصوت الواحد، وتكريس ثقافة القطيع ونشر الأمية الفكرية، ولم نسلم هنا في مجتمعاتنا الخارجية التي يقيم فيها مغاربة العالم. وما زلنا نعمل بإمكانياتنا الشخصية والمحدودة جدا لتأسيس الصوت الثقافي الحر والمنبر المبدع سالكين في ذلك التضحية بما لدينا لنجعل منا ومن أجيال أبنائنا وأحفادنا صوتا له أنساقه الحقيقة وله فلسفته الوطنية والإنسانية المميزة.