أنهيت قبل عدة أيام قراءة الرواية الشهيرة (موسم الهجرة إلى الشمال). الرواية باكورة أعمال الأديب السوداني “الطيب صالح: 1929 – 2009” (رحمه الله) الذي أطلق عليه لقب (عبقري الرواية العربية). حصل الطيب صالح على شهادة البكالوريوس في العلوم من جامعة الخرطوم، ثم انتقل للدراسة في إنجلترا حيث حول تخصصه إلى (العلوم السياسية). عمل فترة طويلة في الـ BBC وتزوج من أسكتلندية أنجب منها ثلاث بنات.
اُختيرت الرواية ضمن أفضل مائة رواية عالمية، وعدها بعضهم ضمن أفضل عشر روايات عربية، وحولت إلى فلم سينمائي (لم أعثر عليه في اليوتيوب).
لست ناقدا لأناقش مدى أحقية الرواية بأن تكون ضمن أفضل الروايات العالمية/العربية، ولكن مما لا شك فيه عندي أن الرواية ليست من أجود ما قرأت من الروايات رغم أنها جيدة بلا شك.
* السبب: لم أجد في الرواية العمق الذي كنت أتوقعه!
رغم اجتهاد الكاتب في التوضيح للقارئ أن لـ “مصطفى سعيد” الذي تدور الرواية حوله شخصية مركبة، إلا أنه بدا لي سطحيا جدا رغم نبوغه وذكائه الحاد وتفوقه على أقرانه في السودان ثم في مصر ثم في بريطانيا التي حصل على منحة للدراسة فيها، ثم عين محاضرا للاقتصاد في جامعة لندن ولمّا يمض من عمره سوى أربع وعشرون سنة، ونشر العديد من الكتب فيها حول “اقتصاد الاستعمار”.
تدور الرواية حول “مصطفى” اليتيم الذي كان يشعر براحة لعدم وجود من يحاسبه، وكان نادرا ما يتحدث مع والدته. يصف “مصطفى” نفسه بأنه متبلد الشعور لا يفرح ولا يتألم فيقول: “كنت مثل شيء مكور من المطاط، تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز”. لم تكن علاقته مع أمه قوية حتى وداعهما كان “بلا دموع ولا قبل ولا ضوضاء”! وعندما جاءه خبر وفاتها بعد سنوات وجدوه سكرانا في أحضان امرأة لم يعد يذكر أي امرأة كانت!
يبدو أن الكاتب لم يحاول أن يغوص في أعماق هذه “الكرة المطاطية”، وربما أراد بهذا الوصف أن يريح نفسه من عناء الغوص في أعماق هذه الشخصية!
لم يقدم الكاتب سوى سببا واحدا يبدو في غاية السطحية لنزوات “مصطفى” في بريطانيا حيث درس في جامعة أكسفورد (إحدى أفضل جامعات العالم): أراد مصطفى، الذي كان رئيسا لجمعية (الكفاح لتحرير أفريقيا)، أن ينتقم من الاستعمار عن طريق “غزوه في عقر داره” بعضوه التناسلي!
وأنقل من الرواية: (مصطفى سعيد قال لهم: “إنني جئتكم غازياً”)، وفي موضع آخر قال: “أنا الغازي الذي جاء من الجنوب. وهذا هو ميدان المعركة الجليدي الذي لن أعود منه ناجيا.”
عاشر “مصطفى” العديد من نساء الإنجليز: العذراء وغير العذراء … العزباء والمتزوجة والمطلقة … عاشر كثيرات ولكنه لم يتزوج سوى “جين مورس” التي لم تسلم نفسها له إلا بالزواج وبعد ثلاث سنوات من المطاردة بينما كانت عشرات الحسناوات “يتساقطن عليه مثل الذباب”! رغم عقد القران، لم تسلم “جين مورس” جسدها لزوجها إلا بعد أشهر من زواجهما في حديقة عامة لا في فراش الزوجية!
ظن (مصطفى سعيد) أنه قد هزم أوروبا المستعمِرة بفتوحاته النسائية قبل أن تهزمه “جين مورس”، الوحيدة التي أحبها بصدق، بابتسامتها الساخرة!
يقول (مصطفى سعيد): “تزوجتها. غرفة نومي صارت ساحة حرب. فراشي كان قطعة من الجحيم. أمسكها فكأنني أمسك سحابا، كأنني أضاجع شهابا، كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي. ولا تفتأ تلك الابتسامة المريرة على فمها. أقضي الليل ساهراً، أخوض المعركة بالقوس والسيف والرمح والنشاب، وفي الصباح أرى الابتسامة ما فتئت على حالها، فأعلم أنني خسرت الحرب مرة أخرى.”
وهنا أستغرب من سطحية بعض “النقاد” الذين لخصوا الرواية بأنها تدور حول طالب مغترب قتل زوجته التي لم تكن مطيعة له!
أي سطحية أكثر من هذا التلخيص الساذج؟!
لم يقتل “مصطفى” زوجته لأنها لم تكن مطيعة له، بل لأنها هزمته في الفراش الذي كان ساحة حربه التي ظن أنه هزم فيها المستعمر الإنجليزي! طعنته “جين مورس” بابتسامتها الساخرة من قدرته على القتل رغم مجاهرتها بمغازلة الرجال من حولها، ورغم تأكده من خيانتها له، وعدم إنكارها لهذه الخيانة.
لم تكن “جريمة شرف” بالمعنى التقليدي، فهو لم يقدم على قتلها في المرات التي تأكد فيها من أنها كانت في فراشه مع غيره، بل قتلها في المرة التي تأكد فيها من صدقها: “قلت لها بصوت واثق كدت أنساه من طول ما افتقدته: هل كان معك أحد؟ أجابتني بصوت أثر فيه وقع صوتي: لم يكن معي أحد. هذه الليلة لك أنت وحدك. أنا أنتظرك منذ وقت طويل. أحسست أنها تصدقني لأول مرة. هذه الليلة ليلة الصدق والمأساة.”
أعلم أن هناك بعض النظريات التي تدعي أن أي شعب تحت الاحتلال/الاستعمار يشعر بنقص في فحولته كما لو أن الاحتلال/الاستعمار قد سلبه جزءا منها، وبالتالي يمكن فهم ردة فعل “مصطفى” من هذه الزاوية، ولكن هل ردة الفعل البدائية هذه مقبولة من مثقف فضلا عن نابغة (كما تصوره الرواية) فضلا عن صاحب شخصية معقدة كما حاول الكاتب تصويره؟!
هذا تسطيح شديد لشخصية حاول الكاتب إظهارها كشخصية مركبة ومعقدة وعميقة. لا أبالغ إن قلت إن الكاتب قد فشل في محاولته رسم شخصية رئيسة من شخصيات روايته إن لم يكن بطل الرواية، ولم ينجح سوى في إحاطته بهالة من الغموض السطحي.
* من هو بطل الرواية؟
يعتمد الكاتب الأسلوب السردي. الراوي هو ابن لقرية نائية على ضفاف النيل سكنها (مصطفى سعيد) بعد عودته من غربته. عاد الراوي إلى قريته بعد حصوله على الدكتوراة في الشعر حيث أمضى ثلاثة أعوام في دراسة أعمال “شاعر إنجليزي مغمور” ليدرِّس الشعر الجاهلي في المدارس الثانوية فبل أن يرقوه مفتشا للتعليم الابتدائي!
يعتقد القارئ للوهلة الأولى أن بطل الرواية هو (مصطفى سعيد)، فحتى الآن لم أذكر في منشوري غيره سوى الراوي! وقد اعتبر بعض النقاد أن بطل الرواية الحقيقي هو الراوي.
أما أنا، وربما كان هذا رأيا غير مسبوق فلم أطلع على كل ما كُتب حول الرواية، فأعتقد أن شخصية الراوي ما هي إلا امتداد لشخصية (مصطفى سعيد)، أي أنهما وجهان لشخصية واحدة: البطل!
قد يبدو هذا مستهجنا للوهلة الأولى، بخاصة أن صفات الراوي الذي ينحدر من عائلة معروفة يكتفي رجالها بامرأة واحدة، قد تتناقض مع صفات (مصطفى سعيد) الذي كان زير نساء حتى إنه وعد في وقت واحد خمس نساء بالزواج وكان يواعد كل واحدة منهن باسم يختلف من امرأة إلى أخرى.
ولكن على ذلك قرائن لا يستهان بها، منها:
# لقد رأى (مصطفى سعيد) في الراوي امتدادا له، لذا عهد إليه دون كل أهل القرية بالوصاية على ولديه مما أثار استغراب (محجوب) أعز صديق لدى الراوي فقال له: “تعرف؟ لا أفهم لماذا جعلك وصيا على ولديه. طبعاً أنت تستحق شرف الأمانة وقد قمت بها خير قيام. لكنك كنت أقلَّنا معرفة به. نحن معه هنا في البلد. وأنت كنت تراه من العام إلى العام. كنت أتوقع أن يجعلني أو يجعل جدَّك وصيّاً. جدك كان صديقَه الحميم.”
# قرر (مصطفى سعيد) أن يرحل عن القرية وهيأ نفسه وعائلته لذلك الرحيل، فلم يعد مبرر من وجوده في نفس القرية مع وجهه الثاني (الراوي).
# أوصى (مصطفى سعيد) للراوي بمفتاح غرفته الخاصة “متحف الشمع” الذي يحتوي كل وثائقه وكتبه ومكتبته ورسوماته، وهي غرفة كان يحرم على الجميع، بما فيهم امرأته، دخولها.
في المقابل، يرى الراوي نفسه امتدادا لـ (مصطفى سعيد) فيقول: “إنني أبتدئ من حيث انتهى مصطفى سعيد، إلا أنه على الأقل اختار وأنا لم أختر شيئا … خسرت الحرب لأني لم أعلم ولم أختر.”
ربما كان الراوي هو الشخص الذي كان (مصطفى سعيد) أن يكونه، وعندما لم يستطع، قرر الاختفاء من حياة عائلته الصغيرة تاركا له الوصاية على ولديه، بل وأوصى زوجه: “استشيريه في كل ما تفعلين.”
إن أوجه الشبه بين (مصطفى سعيد) والراوي كثيرة: كلاهما من إحدى قرى السودان المهمشة …. حصل كلاهما على بعثة للدراسة في إنجلترا … حصل كلاهما على شهادة عليا … رجع كلاهما إلى السودان … لم يستفد السودان من شهادة أي منهما … أغرم كلاهما بنفس المرأة: حُسنة بنت محمود … خسر كلاهما الحرب (وإن كانتا حربين مختلفتين) … كلاهما كان يجيد السباحة (أظنها رمزية لا حقيقية) … كلاهما دخل النهر (لن أدخل في تحليل ما يرمز له النهر فلكل قارئ تأويله).
تبرز هنا مفارقة عجيبة: النابغة الذي درس الاقتصاد ونبغ فيه، لم يعد إلى السودان ليساهم في نهضة بلده، إلا بعد أن انطفأ نجمه ولم يساهم سوى في أعمال تطوير بسيطة للقرية التي استقر فيها. في المقابل، عاد الراوي بعد حصوله على الدكتوراة في الشعر الإنجليزي ليدرس الشعر الجاهلي! في المحصلة: لم يستفد السودان من علمهما شيئا!
لم يعد (مصطفى سعيد) إلى قريته، بل إلى قرية لا يعرفه فيها أحد ولم يكشف عن حقيقة شخصيته بل ادعى أنه تاجر فتزوج إحدى فتيات القرية وأنجب منها ولدين قبل أن يعود الراوي إلى قريته ويشكَّ في صحة الرواية التي صدقها أهل القرية عن حقيقة (مصطفى سعيد).
على النقيض من (مصطفى سعيد) صاحب المغامرات النسائية العديدة، فإن الراوي لم يحاول تحقيق رغبته في الزواج من “أرملته” التي اكتشف بعد فوات الأوان أنه يحبها. لم يندم الراوي على عدم محاولته الزواج بتلك الأرملة الشابة إلا بعد فوات الأوان.
* إشارات موفقة:
لم تخل الرواية من إشارات موفقة ضمنها الكاتب بعض آرائه السياسية والاجتماعية بشكل بارع دون أن يجعل منها عبئا على الرواية، كما ضمنها رأي الغربيين في العرب والأفارقة.
أعتقد أن نجاح الرواية يعزى في جزء كبير منه إلى براعة الكاتب في إرسال هذه الرسائل ونجاحه في ذلك نجاحا لافتا.
سأقتبس من الرواية نفسها فالرسائل أوضح من أن تُشرح:
– على لسان (مصطفى سعيد): “ثلاثون عاما، كان شجر الصفصاف يبيض و يخضر ويصفر في الحدائق، و طير الوقوق يغني للربيع كل عام. ثلاثون عاما وقاعة ألبرت تغص كل ليله بعشاق بيتهوفين وباخ، والمطابع تخرج الاف الكتب في الفن و الفكر. مسرحيات برنارد شو تمثل في الرويال كورت و الهيماركت. كانت إيدث ستول تغرد بالشعر، ومسرح البرنس أف ويلز يفيض بالشباب والألق. البحر في مده و جزره في بورتمث و برايتن. ومنطقة البحيرات تزدهي عاما بعد عام، الجزيره مثل لحن عذب، سعيد حزين، في تحول سرابي مع تحول الفصول، ثلاثون عاما وأنا جزء من كل هذا، أعيش فيه، و لا أحس جماله الحقيقي، و لا يعنيني منه إلا ما يملأ فراشي كل ليلة.”
– على لسان أحد المفتشين الإداريين الذين قابلهم الراوي: “ألم تستقل البلاد الآن؟ ألم نصبح أحرارا في بلادنا؟ تأكد أنهم احتضنوا أرذال الناس. أرذال الناس هم الذين تبوأوا المراكز الضخمة أيام الإنكليز. كنا متأكدين أن مصطفى سعيد سيصير له شأن يذكر. كان أبوه من العبابدة، القبيلة التي تعيش بين مصر والسودان. إنهم هم الذين هربوا سلاطين باشا من أسر الخليفة عبد الله التعايشي، ثم بعد ذلك عملوا روادا لجيش كتشنر حين استعاد فتح السودان. ويقال إن أمه كانت رقيقا من الجنوب. من قبائل الزاندي أو الباريا، الله أعلم. الناس الذين ليس لهم أصل، هم الذين تبوأوا أعلى المراتب أيام الإنجليز.”
– على لسان أحد الإنجليز الذين سمعوا بمصطفى سعيد: “لا يوجد على وجه الأرض أسوأ من الاقتصاديين اليساريين، حتى منصبه الأكاديمي، لا أدري تماما ماذا كان. يخيل إلي أنه حصل عليه لأسباب من هذا النوع. كأنهم ارادوا أن يقولوا: انظروا كم نحن متسامحون ومتحررون! هذا الرجل الأفريقي كأنه واحد منا! إنه تزوج ابنتنا ويعمل معنا على قدم المساواة، هذا النوع من الأوروبيين لا يقل شرًّا، لو تدرون، عن المجانين الذين يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض في جنوبي أفريقيا وفي الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة. نفس الطاقة العاطفية المتطرفة، تتجه إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار. لو أنه فقط تفرغ للعلم لوجد أصدقاء حقيقيين من جميع الأجناس، ولكنكم قد سمعتم به هنا، كان قطعا سيعود وينفع بعلمه هذا البلد الذي تتحكم فيه الخرافات.”
– على لسان الراوي: “وسمعت منصور يقول لريتشارد: “لقد نقلتم إلينا مرض اقتصادكم الرأسمالي. ماذا أعطيتمونا غير حفنة من الشركات الاستعمارية نزفت دماءنا وما تزال؟”وقال ريتشارد: “كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا. كنتم تشكون من الاستعمار، ولما خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر. يبدو أن وجودنا، بشكل واضح أو مستتر، ضروري لكم كالماء والهواء.”
– في حوار يدور بين جد الراوي الذي اقترب من مائة عام، ورجل مزواج هو ود الريس، وبكري أحد رجال القرية، وبنت مجذوب العجوز السبعينية التي لا تخجل من الخوض في حديث يعتبره كثيرون خارجا عن حدود الأدب:
وقال جدي: “ود الريس يحب النسوان غير المطهرات.”. وقال ود الريس: “علي اليمين يا حاج أحمد، لو ذقت نساء الحبش والفلاتة كنت رميت مسبحتك وتركت صلاتك. ما بين أفخاذهن كأنه الصحن المكفي، صاغ سليم، بكامل خيره وشره. عندنا هنا يقطعونه ويتركونه مثل الأرض الخلاء.” وقال بكري: “الختانة من شروط الإسلام.” فقال ود الريس: “أي إسلام هذا؟ إسلامك أنت وإسلام حاج أحمد، لأنكما لا تعرفان الذي يصلحكما من الذي يضركما. الفلاتة والمصريون وعرب الشام، أليسوا مسلمين مثلنا؟ لكنهم يعرفون الأصول. يتركون نساءهم كما خلقهن الله. أما نحن فنجزُّهن كما تُجز البهيمة.”
– على لسان (مصطفى سعيد): “كان المحامون يتصارعون على جثتي. لم أكن أنا المهم بل كانت القضية هي المهمة، بروفيسور ماكسول فستركين من المؤسسين لحركة التسلح الخلقي في أكسفورد، وماسوني، وعضو في اللجنة العليا لمؤتمر الجمعيات التبشيرية البروتستانتية في أفريقيا. لم يكن يخفي كراهيته لي. أيام تتلمذي عليه في أكسفورد كان يقول لي في تبرم واضح: “أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة.”
* العنف:
تزخر الرواية بكمية كبيرة من العنف. حتى فراش الزوجية الذي تسوده عادة المودة والحب حوله الكاتب عبر (مصطفى سعيد) إلى ساحة حرب، وتصفية حسابات بين المستعمَر والمستعمِر.
حتى القرية السودانية الوادعة على ضفاف النيل تحولت إلى مسرح لجريمتي قتل وانتحار: قتلت “أرملة” (مصطفى سعيد) التي أجبرها أهلها على الزواج بود الريس الذي حاول مضاجعتها بالقوة بقطع عضوه الذكري ثم قتلت نفسها. جريمة هزت القرية الوادعة التي “لا يقتل فيها أحد أحدا.”
* ما الجديد في هذه الرواية؟
ربما كان من أسباب شهرة ونجاح هذه الرواية أنها قدمت رؤية جديدة للغرب في عيون المهاجرين، وهي رؤية تختلف عن الرؤية الرومنسية التي تجلت على سبيل المثال في رواية (عصفور من الشرق: توفيق الحكيم؛ 1938) أو (الحي اللاتيني: سهيل إدريس؛ 1953).
اختلفت هذه الرواية عما تقدمها من روايات حول من تغربوا بخاصة في أوروبا. كانت نظرة كثيرين من المهاجرين العرب الأوائل تتسم بالدهشة والانبهار، وهي نظرة تحولت بالتدريج إلى نظرة أكثر موضوعية لها جناحان: “الإعجاب” بالحرية والديمقراطية والتقدم العلمي، و”الازدراء” للانحلال الأخلاقي والتفسخ العائلي. وقد عشت شخصيا قرابة خمس سنوات متواصلة في ألمانيا، وزرت الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية وهذه خلاصة نظرتي ونظرة كثيرين مثلي للغرب.
كتب (الطيب صالح) الرواية ونشرت في البداية في مجلة “حوار” في أيلول 1966، وصاحب المجلة أديب فلسطيني، ثم نشرت بعد ذلك في كتاب مستقل صدر عن (دار العودة: بيروت) في نفس العام.
رغم أن الرواية تتحدث عن (مصطفى سعيد) الذي عاش في إنجلترا في عشرينات القرن العشرين، إلا أن (الطيب صالح) كتبها في ستينات القرن العشرين أي في أوج الصراع العربي-الصهيوني، وكان حديث عهد بآخر مراحل الثورة الجزائرية (1954-1962). لهذا كانت النظرة للغرب كمستعمِر هي النظرة الطاغية على الرواية.
* النهاية:
أعتقد أن النهاية كانت موفقة جدا.
عاد (مصطفى سعيد) إلى السودان بعد أن قضى سبع سنوات في أحد سجون إنجلترا بعد حكم مخفف، لم يكن يتمناه، رغم اعترافه بقتل زوجته “جين مورس” عمدا بعد أن بُرِّئ من تهمة قتل ثلاث إنجليزيات أخريات كان قد وعدهن بالزواج وأقدمن على الانتحار، وهو نفسه لم ينف أن يكون له دور في إقدامهن على الانتحار.
قرر (مصطفى سعيد) الرحيل عن القرية بعد أن كشف للراوي جزءا كبيرا من حكايته، وسلمه مفتاح الغرفة التي تحتوي مؤلفاته (جميعها بالانجليزية) ومكتبته، وبعض رسوماته، وجعله وصيا على ولديه الصغيرين. لم تجزم الرواية بموت (مصطفى سعيد) وأبقت الأمر غامضا غموضا يتناسب مع شخصيته الغامضة وتاريخه المجهول الذي لم يعرف أحد قبل الراوي (عدا جده الحاج أحمد، ربما) عنه شيئا.
حاول الكاتب أن يجعل النهاية مفتوحة، وإن كانت الاحتمالات محدودة، فقال على لسان الراوي: “تركته يتحدث وخرجت، لم أدعه يكمل القصة.”