قراءة في القصة القصيرة ” أوهام” للمبدعة الدكتورة فاطمة الديبي ــ ذ. نصر سيوب

0
6

“أوهام” :

كانت سارة تنظر من نافذة المطبخ الصغيرة، عيناها تتجهان نحو منزل الجيران، الذي كان يزدان بأضواء ملونة وأصوات ضحكات.
أمس، عادت عائلة الجيران من أوروبا ككل صيف. كانت سياراتهم الفارهة محملة بأغراض جديدة، وهدايا غريبة، وأطعمة لذيذة. .
شعرت سارة بحسدٍ شديد، لطالما حلمت بشراء كل ما تشتهيه نفسها لكن المدخول قليل..
في تلك الليلة، وهي مستلقية على فراشها، قررت ألا تستسلم حتى تحقيق حلمها. بدأت تبحث عن عمل، وتوفير المال تدريجيّاً. كانت تعمل بجدٍّ واجتهاد، وتحلم بيوم تتحقق فيه أمنيتها وتسافر إلى أوروبا ولو عبر قوارب الموت لأنها لم تتمكن من إكمال دراستها بسبب ظروف عائلية صعبة،
حلم الهجرة إلى أوروبا راودها كثيراً، ورأت فيه فرصة للبدء من جديد.
لم تجد أي طريق قانوني للهجرة، فقررت المخاطرة بكل شيء والانضمام إلى مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين. كانت تعلم جيداً مخاطر هذه الرحلة، لكن اليأس كان أكبر من الخوف. جمعت كل ما استطاعت من مال، ودعت عائلتها وأصدقاءها، واستعدت لرحلة محفوفة بالمخاطر.
في ليلة مظلمة، انطلقت سارة مع مجموعة من المهاجرين في قارب صغير وسط البحر المتوسط. كانت الأمواج عالية والرياح عاتية، والخوف يملأ قلبها. لم تكن تعرف إلى أين ستأخذها هذه الرحلة، ولكنها كانت مصممة على الوصول إلى هدفها.

بعد عناء ، وصلت سارة إلى أوروبا، حاملة معها آمالاً وأحلاماً كبيرة، لكن سرعان ما تبددت هذه الأحلام، ووجدت نفسها تعيش حياة صعبة وقاسية. عملت في وظائف شاقة بأجر زهيد، عاشت في مساكن مكتظة، وتعرضت للتمييز والعنصرية.
مع مرور الوقت، زادت صعوبات سارة، فلم تتمكن من إخراج أوراق إقامتها، مما جعلها تعيش في حالة من الخوف المستمر من الترحيل. فقدت علاقتها بعائلتها وأصدقائها في الوطن، وشعرت بالوحدة والعزلة.
حلمت بالعودة إلى بلدها، لكنها كانت تخشى أن لا يقبلها أحد بعد كل ما حدث، كما أنها لا تمتلك المال الكافي للعودة، ولا تستطيع السفر بشكل غير قانوني مرة أخرى.
أصبحت سارة حبيسة حلمها الضائع، تشعر باليأس والإحباط والقنوط والوحدة..
فأوروبا ليست جنة كما يظن البعض، وتحقيق الذات فيها صعب للغاية، فهل كانت تستحق كل هذه التضحيات والمعاناة؟!!!

*************************

ــ مقدمة :
في عالمٍ يموجُ بالتطلعات والأحلام، قد تغدو بعضُ الأمنيات مجردَ أوهامٍ تلوحُ في الأفق، لكنها سرعان ما تتلاشى على أرض الواقع؛ قصة “أوهام” للكاتبة فاطمة الديبي هي رحلة في عوالم النفس البشرية، حيث تتصارع الأحلام مع قسوة الواقع، وتتبدد الأوهام أمام صدمة الحقيقة.
في هذه القصة، نلتقي بسارة، الفتاة التي تحلم بحياة أفضل في أوروبا، وتسعى جاهدة لتحقيق حلمها، لكن رحلتها المحفوفة بالمخاطر، والتي بدأت بأملٍ كبيرٍ، سرعان ما تتحول إلى كابوسٍ يطاردها.
تتميز القصة بأسلوبها الواقعي والمؤثر، حيث تنقل لنا الكاتبة تفاصيل حياة سارة ومعاناتها، وتصور لنا مشاعرها المتضاربة بين الأمل واليأس. كما تسلط الضوء على قضية الهجرة غير الشرعية، والمخاطر التي يتعرض لها المهاجرون.

ــ في أحضان القصة :
1 ــ دراسة العنوان :
العنوان يتكون من خبر مرفوع لمبتدإ محذوف تقديره (هذه). ومن الناحية الدلالية فالعنوان يُشير إلى الفجوة بين التصوُّرات الذهنية المُزيَّفة والواقع المُؤلِم، فهو يحمل معنى الخيال الزائف والتصورات الخاطئة التي قد تسيطر على الإنسان وتدفعه إلى اتخاذ قرارات مصيرية بناءً على رؤية غير واقعية للأمور. فالكاتبة تعمّدت اختيار كلمة “أوهام” (جمع وَهْم) لتعكس تعدد طبقات الخداع التي تحيط ببطلة القصة والمجتمع؛ من وهم الجنة الأوروبية، ووهم الاستقرار العائلي، ووهم الهوية.
ويعكس العنوان بشكل مباشر حالة الشخصية الرئيسية “سارة” التي كانت تعيش على وهم الهجرة إلى أوروبا، وتصورت أن حياتها ستتغير بشكل جذري بمجرد وصولها إلى هناك. كما يثير العنوان تساؤلات لدى القارئ حول طبيعة هذه الأوهام، وما إذا كانت ستتحقق أم ستتبدد على أرض الواقع.

2 ــ الأحداث :
تبدأ القصة بتصوير سارة وهي تراقب جيرانها العائدين من أوروبا بحُلمِها المادي البسيط، وتشعر بالحسد لرؤية مظاهر ثرائهم، فتتخذ قرارا بالعمل وتوفير المال لتحقيق حلم الهجرة إلى أوروبا، رغم معرفتها بصعوبة الطرق القانونية، لتلجأ إلى الهجرة غير الشرعية عبر رحلة بحرية خطرة في قارب مزدحم وسط عواصف وأمواج متلاطمة. تصل سارة إلى أوروبا لتفاجأ بواقع مرير : أعمال شاقة، أجور متدنية، عنصرية، وإقامة غير قانونية تزيد خوفها من الترحيل.
فتفقد تواصلها مع عائلتها وتغرق في الوحدة، وتتمنى العودة لكنها عالقة بين خوفها من رفض المجتمع وعدم قدرتها على تحمل تكاليف العودة.
تنتهي القصة بسؤالها الوجودي عن جدوى التضحيات، بينما تترك الكاتبة الإجابة معلقة لتعكس فشل الحلم وتحوُّله إلى كابوس.

3 ــ الشخصيات :
ــ سارة : الشخصية الرئيسية؛ شخصية ديناميكية تتحول من فتاة طموحة إلى إنسانة مُحطَّمة. تعكس مشاعرها المتناقضة بين الحسد والأمل، تطوُّر شخصيتها من امرأة محبطة إلى مهاجرة شجاعة، لكنها تواجه واقعا قاسيا بعد وصولها إلى أوربا.
غياب التفاصيل عن ماضيها (مثل سبب عدم إكمالها الدراسة) يُضفي غموضا يُبرز كونها رمزا لكل مهاجر مجهول.

ــ عائلة الجيران : شخصيات ثابتة/نمطية، تمثل النموذج الاستهلاكي الذي يُغذّي الوهم، لكنها تظل بلا ملامح، كدليل على سطحية العلاقات في المجتمع.

ــ المجتمع الأوروبي : يُصوَّر ككيان مجهول (أصحاب العمل، السلطات) يعامل سارة كأداة، مما يُجسّد اغتراب المهاجر.

4 ــ الزمان والمكان :
١ ــ الزمان : زمن البداية غير محدد بدقة، إلا أنه بداية فصل الصيف حيث يعود المهاجرون لقضاء عطلة الصيف في بلدهم الأصلي راكبين سيارات فارهة ومحملين بهدايا ثمينة.
وتمتد أحداث القصة على أشهر أو سنوات (من لحظة قرار سارة بالهجرة حتى استقرارها المُرّ في أوروبا).

٢ ــ المكان :
ــ البلد الأصلي لسارة : وهو مكان غير مُسمّى، يُرجّح أنه المغرب. ويتمثل أيضا في منزلها المتواضع ونافذة مطبخها التي تراقب منها جيرانها.

ــ البحر المتوسط : وهو مسرح الرحلة الخطرة عبر قارب متهالك، حيث تصف القصة الأمواج العاتية والظلام.

ــ أوروبا : مكان عام وغير مُحدد (رمز للغرب)، تُصوَّر فيه الأحياء الفقيرة، المساكن العشوائية، وأماكن العمل الاستغلالية.

5 ــ اللغة :
تستخدم الكاتبة لغة بسيطة وواضحة، تعكس عمق المعاناة والتحديات التي تواجهها سارة، وتسهّل على القارئ التفاعل مع الأحداث والشخصية الرئيسية والتعاطف معها. كما اعتمدت الكاتبة على التصوير الحسي للأحداث من خلال لغة حسية (أمواج عالية، رياح عاتية، مساكن مكتظة) تُعمّق معاناة الشخصية وتجعل القارئ شاهدا على آلامها.

6 ــ أساليب السرد :
اِعتمدت الكاتبة على السرد من منظور الرؤية من الخلف باستخدام ضمير الغائب، مما يتيح القصة بعدا موضوعيا ويتيح للقارئ رؤية واضحة لمشاعر البطلة.
كما اعتمدت الكاتبة على الوصف الدقيق والتصوير الحسي للأحداث، مما يساعد القارئ على تصور المشاهد وتخيل الأجواء، وعيش التجربة بكل تفاصيلها كما اعتمدت أسلوب التكثيف في عرض الأحداث، مما يجعل القصة أكثر تأثيرا وإيجازا.

7 ــ الرمزية :
ــ نافذة المطبخ : إطار ضيق يعكس محدودية رؤية سارة للحياة وقصور أحلامها.
ــ منزل الجيران : يرمز إلى الحياة الرغيدة التي كانت تحلم بها سارة.
ــ الأضواء الملونة عند الجيران : ترمز إلى إغراء الماديات والوهم البصري الذي يخفي التفكك الإنساني.
ــ أوروبا : ترمز إلى جنة الأحلام التي كانت تتخيلها سارة ومجموعة المهاجرين.
ــ القارب : يرمز إلى الرحلة المحفوفة بالمخاطر التي قامت بها سارة لتحقيق حلمها، ويُجسّد رحلة المهاجرين بين الموت والحلم.

8 ــ الرسائل :
تحاول الكاتبة من خلال القصة تفنيد وَهْم “الجنة الأوروبية” كحلٍّ سحري لمشاكل الفقراء، وكشف واقع الاستغلال والعنصرية هناك. ونَقْد الظروف الاجتماعية والاقتصادية، التي تدفع المهمشين للمخاطرة بحياتهم في هجرة غير آمنة. كما تسلط الضوء على معاناة المهاجرين غير الشرعيين (العزلة، الخوف الدائم، فقدان الهوية)، والتشكيك في فكرة “النجاح” المرتبطة بالغرب، وإبراز أن الهروب من الواقع قد يُعمّق الأزمات. والتأكيد على أن الوهم (مثل حلم الهجرة غير الشرعية) قد يكون سُمّاً بطيئاً يقتل صاحبه رويداً رويداً.

ــ خاتمة :
“أوهام” ليست مجرد قصة عن الهجرة بل هي استعارة لأي حلم يتحول إلى كابوس، فالقصة تعكس واقعا معقدا يعيشه الكثير من المهاجرين غير الشرعيين، حيث تتداخل الأحلام مع الواقع المرير. من خلال تجربة سارة تطرح الكاتبة تساؤلات عميقة حول معنى النجاح والتضحية، وتنجح في تسليط الضوء على جرح الإنسان المفتوح بين شواطئ الجنوب والشمال، مما يجعل القصة نصا أدبيا غنيا يستحق التأمل والدراسة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here