جميلة بالوالي – أين يسكن الجن؟

0
253

      بادرتني بالابتسام والكلام.. فأنا لم أتذكرها في البداية وهي مرتدية للكمامة.. أنا والأستاذة عتيقة نلتقي للمرة الثالثة ، وهذه المرة بمناسبة الامتحانات الخاصة بتلاميذ السنة الأولى باكلوريا ..تلك الامتحانات التي كانت قد أجلت بمناسبة ظروف الحجر الصحي.

     تم لقاؤنا الأول داخل الثانوية التي أعمل فيها كناظرة دروس في ظروف خاصة.. ظروف تخص العمل أيضا.

    قبل إعلان حالة الحجر المنزلي بأشهر ..كانت التلميذة التي اخترت لها اسم مريم حفاظا على هويتها وسمعتها تثير بلبلة وضجيجا وصخبا داخل الفصل وذلك بعدما كانت تسقط على الأرض في كل مرة وتقوم بحركات هستيرية صارخة بأعلى صوتها، مدعية أن الجن الذي يسكنها هو من يحركها ويتحكم في كل تصرفاتها .. الأمر الذي كان يرعب التلاميذ بل وحتى الأساتذة فكان الجميع يغادر حجرة الدرس ..وهكذا تسود حالة من الفوضى والرعب داخل المؤسسة بكاملها.

    تكررت هذه الحادثة مرات عديدة وخصوصا في فترة فروض واختبارات المراقبة المستمرة ..فالآنسة مريم كانت تستغل موهبتها في التمثيل وقدرتها على جعل عينيها جاحظتين ومحمرتين أكثر من اللازم إضافة إلى حركاتها الهستيرية المعهودة لتثير بعض الرعب في النفوس، كي يتسامح معها الجميع ويدعوها تغش في الاختبارات لتحصل على معدلات تؤهلها للنجاح..خاصة وأن ذكاءها كان يخونها فيما يتعلق بالتحصيل الدراسي.

      لم أصدق أبدا أن باستطاعة الجن أن يسكن جسد أو روح الإنسان..وهذا بالضبط ما حاولت أن أقنع به زملائي وزميلاتي في العمل من أساتذة وإداريين. بعد كل حادثة كنا نجتمع ونناقش الموضوع ولو وقوفا في الساحة في بعض الأحيان ..الكل مقتنع بأن الجن يسكن الإنسان ويحركه كما يشاء والكل يدعي بأن هذا مذكور في القرآن ..إلا أنا ..بالنسبة لي لا توجد آية واضحة تدل على ذلك ولا نجد في السنة النبوية أيضا أي دليل بيّن على ذلك..الجن يوسوس للإنسان فقط كما جاء في سورة الناس فهو   ” الوسواس الخناس” ويقول الله تبارك وتعالى مخاطبا إبليس اللعين ” إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ” ..

     قصص وحكايات غريبة عن الجن وقدرته على السيطرة على الإنسان والمكوث داخل جسمه وروحه والتحدث إلى الآخرين بدلا عنه بصوت مختلف وأحيانا بلغات أجنبية لا يفهمها المضيف أصلا ولا يتحدث بها في الأحوال العادية..هذا ما كان يروج له زملائي .. وكنت في كل مرة أعقب عليهم مبتسمة:” لو كان الجن يسكن حقيقة في الإنسان ..لماذا لا يختار له سكنى مريحة بدل أن يسكن مريم تلك التلميذة الفقيرة المعدمة التي لا يقوى أبوها حتى على علاجها عند طبيب مختص ؟ لو كنت مكانه لاخترت أن أخترق جسم رجل غني ..وما أكثر الأغنياء في بلدي من وزراء وسفراء ورجال أعمال.. كي أستمتع بكل ما لذ وطاب من كماليات هذه الدنيا الفانية ! ” كان كلامي يثير بعض الشك  لدى الجميع ..وكانوا يضحكون ويعجبون نوعا ما بما أقوله لكن لا أحد اقتنع به فعلا ،لأن أمور الجن وتحركاته وقدراته الخارقة  مترسخة في الأذهان منذ الطفولة لدى الكثيرين وخاصة أولئك الذين لقنت لهم تلقينا من طرف الآباء والمحيط العائلي ..

      بصفتي مسؤولة عن الجانب التربوي في المؤسسة كان يجب أن أتدخل لإيقاف هذه المهزلة واسترجاع الهدوء والجو التربوي المطلوبين لتحصيل الطلاب..وهكذا وجهت تقريرا عن الوضع للسيد المدير طالبته فيه باتخاذ الإجراءات اللازمة ومراسلة المديرية الإقليمية قصد الإخبار وطلب المساعدة لأن الوضع خطير ..وحالة التلميذة تزداد سوءا وعنفا مؤثرة بذلك على المحيط المدرسي كله..

     وهكذا أرسلوا إلينا عتيقة وهي فعلا كانت بداية عتق لنا من أفلام مريم الهليودية وكوابيسها وقبيلة الجن التي كانت تسكنها والتي يتراوح عددها ما بين خمسة وستة وعشرين كما كانت تدعي ..

     عتيقة هي مدرسة مادة التربية الإسلامية وعضو في خلية الإنصات التابعة للأكاديمية. احترمتها كثيرا وخصوصا عندما أخبرتني أنها متمسكة بالتدريس وأن عضويتها في الخلية وتكليفها بالإنصات للتلاميذ الذين يعانون من مشاكل نفسية أو اجتماعية هو عمل تطوعي لا تتقاضى عليه أي أجر ..  أجبتها بكل بساطة”  التدريس نوع من الإدمان رغم كل مصاعبه والإرهاق الذي يسببه لنا ”  ولا أتذكر إن كنت أخبرتها بأن العودة للفصل والتدريس تراودني مرات عديدة كما دأبت أن أقول لزملائي وزميلاتي كلما أحسست بمتاعب العمل الإداري وبالضغط القوي على أعصابي أحيانا جراء ساعات العمل الإدارية    الطويلة .

     شرحت حالة مريم للأستاذة قبل أن أجعلها تقابلها وحاولت أن أفهمها بأنني غير مقتنعة بقضية الجن ..فوجئت بها تخبرني بدورها بأن هذا النوع من التلاميذ مر بها في مشوارها العملي غير ما مرة وبأنهم يكذبون ويمثلون بغرض تحقيق أهداف أخرى وكسب تعاطف المحيطين بهم .ارتحت لكلامها ..أخيرا التقيت بمن يفهمني ..استطاعت الأستاذة عتيقة بتجربتها السابقة وبحنكتها وأسلوبها التربوي السلس أن تردع أخيرا ممثلتنا البارعة ..لم تعد مريم تجرؤ على إثارة المشاكل خوفا من الإقصاء والطرد .. وأصبحت الاختبارات والفروض تجرى في جو هادئ..

     شيئا فشيئا أصبح الأساتذة والإداريون بمؤسستنا يعيدون النظر في مسألة سكنى الجن وقدرته على اختراق جسم وروح الإنسان ..وأصبح الجميع يقول :” أخيرا وجدت السيدة الناظرة علاجا وحلا لحالة مريم! “.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here