يلخص عنوان القصيدة روحها وشدة التناقض والترابط في نفس الوقت الذي يعتري المواضيع المتناولة فيها وهي: الشعر والمرأة والحب.. الدفاتر تعبر عن الشعر والخصوبة والحب، فيما ترمز الصحراء للعقم والجحود واللامبالاة .
على غير العادة تبدأ القصيدة بلوم النقاد أو بعض القراء الحاقدين على الشعر والشعراء، وتمر لتصف معاناة الشاعر الشهيد، وتنتهي أخيرا بلوم الحبيبة.
سِفر يُقرِّع سيرة الشعراء
ويخط أرصفة على الشهداء
جناس غير تام “سِفر”، وهو على مستوى القراءة يفهم على أنه الكتاب الكبير، وعلى مستوى السمع قد يفسر أيضا على أنه “صفر”، كناية عن أولئك النقاد الخاويي الوفاض الجاهلين بأمور الشعر وأصول اللغة، المتطاولين بدون وجه حق على الشعر والشعراء.. والذين لا شغل لهم سوى ذم الشعراء والتقليل من شأنهم وقبر مجهوداتهم.. وينتقل أحمد حضراوي للحديث عن معاناته -وربما معاناة شعراء آخرين- وكفاحه من أجل رفع شأن الشعر والشعراء:
وأنا على أعرافها متوجسٌ
نحو الجنان أجُرُّ نار قضائي
كفني كلام قد قضمتُ بذوره
فهفا إلى سحب بغير سمائي
شاعرنا موجود على الأعراف بين الجنة والنار يحاول تغيير قدره وتحويل نيرانه إلى جنان.. يحاول زرع الفرح ومقابلة الحقد والجحود بالحب والشعر الراقي الأنيق.. وعندما يكون الشاعر معتقدا أنه يزرع بذور الحب والحياة، يحيك الحاقدون ضده المؤامرات لقتله وتثبيطه وإضعاف عزيمته وسحق إبداعه.. وبدل التقدير والتكريم يحضرون له كفنا بلا عزاء.. لأنهم دون مستوى الشاعر، وعاجزون على فهم كلامه وأشعاره، فسقف سمائهم وطموحاتهم لا يتوافق مع عالم الشاعر وآماله وأحلامه.
رغم الحروف يهزُّ جذع حضارتي
ويحيلني قلما بحبر عناءِ
ما زلت أنتظر الحكاية في فمي
كي تنطق الأصداء بالأصداء
فرغم تمكن الشاعر من مقومات الشعر ومن وسائل الإبداع إلا أنه يعاني الأمرين من كل ما يقال عنه ويحاك ضده من طرف أشخاص، لا يفقهون شيئا ولا يتقنون إلا فن الإشاعة وترديد الأصداء والأوهام.
وأبوح منتشيا بغربة وحدتي
صمت البلاغة أول الإنشاءِ
طهّرتُ قلبي من شتات معرّتي
لا حاء تغري بي لحرف الباءِ
توضح هذه الأبيات مدى إحساس الشاعر بالغربة والوحدة وبنزوعه أحيانا كثيرة إلى الصمت، وكأنما تعب من الكلام ومن قرض شعر لا يُفهم ولا يستوعبه الكثيرون، بل وقد يعتبرونه عارا في بعض الأحيان.. ولعل هذا هو حال البعض من القراء الذين لا يقدرون ولا يتفهمون اهتمام الشاعر بمواضيع معينة كموضوع الحب والمرأة مثلا..
وبعد هذه الأبيات مباشرة يبوح شاعرنا في عتاب شديد بكل ما يجول بخاطره حول الشعر والشعراء والمرأة والحب..
لا شعر لا امرأة ولا وهم، أنا
وحدي أجر الماءُ نحو الماءِ
شطَّبتُ أعمار القصائد لم أدع
من بينها نسبا إلى الخنساءِ
أو عروة بن الوِرد أو أطفاله
أو حاتم في طيِّئِ الكرماء
ومطولات الشنفريِّ تعلقتْ
في كعبة الإحساس كالأنداءِ
تعبر هذه الأبيات عن سخط الشاعر على الشعر والشعراء والمرأة بوصفها مصدر إلهام وعلى إحساس الشاعر المرهف نفسه ..ذلك الإحساس الذي يجعله يعيش غريبا ووحيدا في عالمه المثالي، مذكرا بلغته التي ينقل بها ما يريد من أحاسيس ومعاني، لكنه لم يستلهمها إلا من أغوار قاموسه الذاتي. فرغم قراءته لأمثال الشعراء الكبار القدامى الأوائل منهم كعروة بن الورد والشنفرى، وحاتم الطائي والخنساء وأبي العلاء المعري، فكأنه يقول لنا أنه قد مسح قصائدهم من ذاكرته وأعاد كتابة الشعر بأسلوب يشبهه وحده، فلم تعد في قصائده آثار لمن سبقه.
لكن لسوء حظ الشاعر أو ربما لحسن حظه سرعان ما ينسى سخطه ويعود لتذكر حبيبة لا يستطيع أن ينساها رغم كل عذاباته:
لم أُبقِ إلا ذاتَ ذاتي، عينُها
لغةٌ تسيل بأحرفي للياءِ
لما نسيتُ وجوههنَّ تعثرتْ
بحنين قلبي دورةُ الأسماءِ
غزلَ القصائد قد محوتُ فلم يكنْ
إلا اسمُها، أنثى بكل نسائي
يحاول الشاعر أن يكون أنانيا وألا يفكر إلا في ذاته وأن ينسى وجه كل امرأة قد تكون عذبته وآلمته.. ليعيد صياغةلغته ومفاهيمه، قبل أن ينصاع لشوق وحنين جديدين، يطغيان من جديد على طبعه الشاعر، الذي لا يمكن أن يعيش بدون حب وبدون أنثى.
من أول الماضي لآخر لحظتي
بين الخرائط لوحة لولائي
تسري كأول قُبلة بمفاصلي
وتثور راقصة على أشلائي
حولي تطوف كأنني البيت الذي
رُفعت له الأحجار تحت رداءِ
والحبيبة هذه المرة مختلفة تماما عن سابقاتها لأنها تسكن جسد الشاعر وروحه دون أن تقترب منه، فهي تطوف حوله من بعيد ولا تنوي الاقتراب منه أبدا:
تسعى إلى الثغرات ترجم بابها
وتزُمُّ أحواضا بوجه ظماءِ
في قلبها شعري وفي راحاتها
قان تجلى لونه كدمائي
هذه الحبيبة العاشقة تشك في إمكانية هذا الحب بعد، وتعاني من القسوة والجفاء اللذين لم تعرف غيرهما إحساسا، لكنها ترفض -ربما مكرهة أو مترددة- أن تتجاوب مع أحواض من حب الشاعر المتدفق.. هي تعشقه وتهوى شعره لأنه في قلبها وفي راحتيها، لكن ما زال هناك شيء ما يدفعها إلى اللامبالاة وإلى تجاهل كل هذا الحب القوي والخوف من الذوبان الكامل فيه: “قان تجلى لونه كدمائي”. يوظف الشاعر اللون الأحمر هنا وهو يحمل عدة معاني: شدة العشق والوله من جهة المحفوفة بالمخاطر، والصعوبات من جهة أخرى.
إنى أرد الطعن قان بعدما
قد طوّقتْ موتي بحُلوِ بكاءِ
وهنا يفسر الشاعر سبب سخطه السابق على كل شيء وطعنه وشكه في حبها له.. يتألم الشاعر ويحس بأنه هالك وميت بدون معشوقته، رغم أن شكواها وآلامها عذبة وحلوة الطعم والمذاق.
لما عرفتُ طريقه آخيته
حزنا يمدد خطوة الطلقاءِ
الحب هجرته وهجرة لعنة
أكلت صحيفة موعدي برجائي
يتعاطف الشاعر مع هذه المرأة ومع أحزانها ورغبتها في أن تكون طليقة حرة وفي أن تهوى وتحب كما تريد، “الحب هجرته” رغم اللعنة التي تحيط هذا الحب وخيبة الأمل واستحالة اللقاء.
عجب السؤال كتابةٌ مشبوبة
بنساء مصر ويوسفٍ وغِواءِ
ما أحزن الكلماتِ في غاري الذي
أدمتْهُ كل دفاتر الصحراءِ !
وهنا تتضح قصة الشاعر العاشق جلية، فهي قصة حب مستحيلة استحالة قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز وصحيباتها..
وبهذا لا يبقى للعاشق غير الحزن الذي يدميه ويؤلمه، وهو بحجم كثبان ورمال الصحراء القاحلة، وبحجم دفاتر وأشعار شاعرنا الكبير الذي يتحدث في الكثير من قصائده عن الحب المستحيل، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قصيدتي “مجنونة قيس” و”زلة الماء”.
ولا يسعنا في الأخير إلا أن ننوه بأحمد حضراوي الشاعر العاشق، الذي كان بارعا كعادته في وصف جنون وعذابات الحب والهيام، والذي يجعلنا نستمتع بقراءة قصائده، ويجعل عشقنا لها ممكنا على عكس عشقه “لنسائه”.
دفاتر الصحراء – أحمد حضراوي