كثيرة هي دعوات الوسط الذي أنتمي إليه وأقصد به الوسط الأدبي والشعري عموما، أو وسط الثقافة والإبداع بكل تجلياته عموما، ويتشابه الأمر في (الداخل هنا: بلجيكا) و(الخارج: المغرب أو أي بلد عربي آخر شقيق). فالوضع على اختلاف محيطه وبيئته الشديدين متشابه جدا في سلبياته التي تتشتت بين ذاتي وموضوعي وتتلخص في مجملها في عدم فهم كثير من القائمين على الثقافة للمجال محل اهتمامهم، وفي تعاملهم معه من جانب حب الظهور والكسب المادي وتحقيق ريع ما وغيرها من الموحات البئيسة، وتلك أهون الأمور ومنسجمة تماما مع تردي الذات المبدعة أو المهتمة بالإبداع والتي حادت بشكل عام أو شبه عام عن وظيفة الإبداع السامية والراقية، أو لتحقيق أجندات خارجية أملتها هيئات دولية لحسابات سياسية أو دينية أو اقتصادية معينة، أو جهات معادية “بالمطلق” لتوجُّه دولة ما أو بلد أو حراك ما “انفصالية مثلا”، تصب مباشرة في نهر “المشروع الثقافي العدو”، تطبخ في كواليس مراكزه الثقافية أو مكاتب قنصلياته المظلمة.
وليس خافيا على أحد أنه قد أصبح للمجال الثقافي والإبداعي حيتانه التي التهمت أو تكاد تلتهم أسماكه الصغيرة التي تحاول جاهدة ان تربي زعانفها في بحر هذا المجال المتلاطمة أمواجه، ولكي ينسجم المثال مع عنوان المقال نقول: ذئابه التي لا ترى في الدماء الجديدة التي تضخ آمالها في قلب المعترك الثقافي بحماس ورؤية جديدين وأمل، إلا شياها سهل سفك دمها على مذبح الوهم الفكري والذهني لتقدّم قرابين لمافيات سوق “الثقافة”.
الجريمة الثقافية لم تعد تنحصر بالسرقات الأدبية التي حلت محل الاقتباس المبالغ فيه أو التناص وهو الاقتباس البريء، أو إلى ما آلت إليه من سطو على حقوق الغير الفكرية والجمالية، بل تجاوزته إلى ممارسات غريبة جدا لم يشهد لها التاريخ القديم ولو في اسوء محطاته مثيلا، حيث كانت تختصر العلاقات حتى الأسوء منها بين المثقفين والأدباء في الفعل الثقافي والإبداعي ورد الفعل بما يوازي أو ربما يفوق الفعل ذاته.
عرفنا مثلا معارك عدة قديما بين المتنبي وأبي فراس الحمداني التي يجهل معظم المنتسبين للثقافة أسبابها ودواعيها الحقيقية وربطها نقاد “الدرجة الثانية” بغيرة أبي فراس من المتنبي، وعرفنا فنا تميز بذاته في صراع الشعراء عرف بالنقائض، وقبل ذلك عرف الشعر الجاهلي وعصورا بعده تهاجي الشعراء فيما بينهم، وعرفنا حديثا معارك لم تكن بين ذوي صنف واحد من الإبداع بل في شقي الشعر والنثر، مثلا نقد العقاد اللاذع لأحمد شوقي نثرا، فلم يكن مستوى العقاد الشعري ليؤهله للرد على شوقي شعرا. غير أن ما عرفته أوساط بعض المثقفين والمبدعين بعد فترة ما اصطلح عليه بـــ (الربيع العربي)، فقد كانت قاصمة ظهر كل الإرث الثقافي وقد سقط قناع المبدع العربي (إلا من رحم ربك)، والتي تبين أن عددا كبيرا من الأسماء التي كانت تحسب على الرواد ومنارات الثقافة العربية لم يكونوا في واقع الأمر سوى دمى تحركها أيادي تسترزق من ثدي الوطن وتشارك في استنزافه ليس فقط ماديا ومناصبيا، بل وحتى في انتمائها إليه وامتداد تجربته عبره.
مصر مثلا التي كان يعتقد أنها ستحافظ على ريادتها الثقافية وخاصة تلك التي عرفتها قبيل انقلاب جمال عبد الناصر وحاشيته على محمد نجيب، وبعدها بقليل، لم تنجب مشهدا ثقافيا منسجما بعد ثورة 25 يناير، بل لم تراكم غير أيام الجوع والحرمان في حويصلات بعض القائمين على الفعل الثقافي الذي همش بلا شك الكثير من الشرفاء من خلال إسداء الطعنات المتتالية إلى ظهورهم والذين آثر بعضهم في آخر المطاف السلامة على الشحناء فانسحب حفاظا على ماء وجهه ولربما على حياته أو فر خارج حدود النيل، حين آثر غيره جب يوسف وسجنه على سوء صحبة ميدان التحرير المرتدة عن مبادئ الثورة. فخلت الساحة لكل ما لا يمكن أن يخطر ببال عاقل ابتداء من جميع الأمراض النفسية التي قد تجتمع في فئة ضالة من المثقفين، إلى عمليات السطو ليس على الإنتاج الذهني فحسب والذي أصبح متشابها إلى حد بعيد لركود مائه، بل والسطو على أموالهم وأرزاقهم من خلال عمليات نصب واحتيال منظمة ومحترفة لا يمكن أن ينسج على منوال تفاصيلها وحبكتها أكبر كتاب السيناريو في هوليود، نموذج الشاعر أحمد بخيت ودار نشرة المقبورة كمثال، وغيره كثير.
نفس ما ينطبق على الكتاب كنتاج إبداعي وثقافي ينطبق على كل نتاج ذهني ادبي أو فني آخر، ومعه تشحذ سكاكين الابتزاز والتشهير ونسج سيناريوهات الفضائح لمن استعصم فوق جبل كبريائه وثقته في نفسه، فقد اختلط الحابل بالنابل وتخصص من يجيدون صياغة الحرف في عرض تأجيرها لمن يدفع أكثر أو تنفع واسطته في تحقيق مغنم أو منصب. وأصبحت هذه البلدان (ولا يستثنى منه إلا القليل القليل) بدل أن تصدر ما يبني العقول والأحاسيس “كأيام زمان”، تصدر هذا السرطان الخبيث الذي تمكن من قلب الإبداع فأصبح وجهه وعلامة جودته وميزته، وانتشرت مبادرات تصفيات الحسابات في المنابر الوهمية وبأسلوب منحط ورخيص، وتخصص أهل النقد في كتابات التاء المربوطة بدل إسقاط معايير النقد الحقيقية ونفسها على نون المذكر أيضا، وتفرخت المنتديات وتناسلت الجمعيات تناسل حمير الوحش في ثورة رداءة (لا نريد الخوض في تجلياتها وقد عالجناها بما يكفي في مقالات سابقة). ونقلت ظروف الحروب والثورات التي جعلت الربيع العربي خريفا نماذج من المبدعين إلى ما وراء البحر ولما يتلقفوا بعد واقع الثقافة الأوروبي الذي راكم قرونا من الاحتكاك والتطور فانغلقوا على رؤيتهم التي جادت بدورها بكل سلبيات ما حملوه من رحال لجوئهم أو هجرتهم، إضافة إلى تأزم (النفس المبدعة فيهم) والتي عايشت ظروفا دموية صعبة أثرت فيهم وقلبت أناهم إلى غضب على كل صرح ثقافي، وكأنهم فاتحوا أوروبا الجدد الذين كانت قبلهم مجرد فدفد، لم ينم بها بعد قلم عربي قبلهم. فوصل المشهد أخيرا إلى حين انسدال ستارته الحمراء المضرجة بدماء حملانه، لكن علام سينسدل يا ترى؟ وحده الزمن كفيل بالإجابة.