Home Slider site قراءة قانونية سياسية في مشروع قانون “تكميم الأفواه” – د. خالد الادريسي
لمشروع قانون 22.20 المتعلق بشبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البت المفتوح والشبكات المماثلة مشروع بمثابة كمامة قانونية دائمة على حرية التعبير، أو كدق المسمار الأخير في نعش حرية الرأي .
تفاجأ كل المتتبعين للشأن القانوني والسياسي بالمغرب، برواج وثيقتين مسربتين من مشروع قانون 22.02 المتعلق بشبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البت المفتوح والشبكات المماثلة تتضمنان بعض المقتضيات الزجرية ضد من يستعمل هذه الوسائط المعلوماتية الاجتماعية من أجل الدعوة إلى مقاطعة بعض المنتجات والبضائع والخدمات أو التحريض علانية على ذلك، وأيضا حمل العموم أو تحريضهم على سحب الأموال من مؤسسات الائتمان أو الهيئات المعتبرة في حكمها، إضافة إلى الترويج لمحتوى إلكتروني يتضمن خبرا زائفا من شأنه التشكيك في جودة وسلامة بعض المنتوجات والبضائع وتقديمها على أنها تشكل تهديدا أو خطرا عاما على الصحة العامة والأمن البيئي. وقد قرر هذا المشروع في مواجهة هذه الأفعال مجموعة من العقوبات السالبة للحرية التي قد تصل إلى ثلاث سنوات، وعقوبات مالية قد تصل إلى خمسون ألف درهم .
بداية، لا بد من الاعتراف، أن الكثير من مستعملي مواقع التواصل الاجتماعي وصناع المحتوى، أصبحوا لا يعرفون الحدود القانونية والأخلاقية التي يجب أن تقف عندها منشوراتهم ومحتوياتهم، مما يجعلهم يقدمون أشياء مخالفة للقانون، ومضرة بالمصالح الخاصة وأيضا المصلحة العامة، بل إن منهم من يسعى إلى خرق هذه المصالح عمدا لما يثيره هذا الأمر في الغالب من ضجة يستطيع من خلالها صانع المحتوى آو الناشر الإلكتروني أن يحقق ”البوز” بكل ما يضمنه ذلك من زيادة في الشهرة والمداخيل المالية، نتيجة الزيادة في عدد المتابعين والمعجبين الذين يتضاعفون مع كل تطاول وانتهاك صارخ في مواجهة الحقوق الفردية والجماعية .
ومن الأكيد أننا أيضا كنا أمام فراغ تشريعي في معالجة بعض الممارسات المشينة التي تتم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والبت المفتوح والشبكات المماثلة، ولذلك كان من غير الممكن معاقبة بعض مرتكبي هذه الأفعال، ومن بينها مثلا نشر الأخبار الزائفة، إلا من خلال التوسع في تفسير بعض المقتضيات القانونية الجنائية القريبة من هذه الأفعال. وهذا ما كانت تلجأ إليه النيابة العامة بصفتها جهة متابعة، وهيئة الحكم لمتابعة مرتكبي هذه الأفعال والحكم عليهم، رغم أن هذا التوجه الذي كانت تقوم هذه الأجهزة القضائية يتعارض مع مبدأ الشرعية الذي يعني أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وما يترتب عليه من ضرورة التفسير الضيق وعدم القياس .
لذلك كان الكل في انتظار قانون يضبط الفوضى والعشوائية التي يعرفها عالم مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما أن تأثير هذا الإعلام الجديد أصبح أكثر قوة من الإعلام التقليدي، لأنه رسخ ثقافة إعلام المواطن أو المواطن الصحافي الذي يكون فاعلا في نشر المادة الخبرية وتحليلها، وأيضا متفاعلا مع باقي المنشورات والمحتويات انطلاقا من خصائص الإعجاب والتعليق والنشر. وهذه الخصائص جعلت منه المصدر الأساسي للأخبار في جميع المجالات، بكل ما يترتب عن ذلك من تأثير على فئات واسعة من المواطنين، خاصة أن عملية تداول الأخبار والمنشورات والمحتويات تتم بسرعة قياسية .
إن المتأمل في حجم وعدد القوانين الزجرية التي صدرت خلال الأسابيع القليلة الماضية، يتبين أن المشرع المغربي قد أصابه إسهال تشريعي كبير من خلال إصدار عدة قوانين زجرية تتضمن عقوبات زجرية حبسية ومالية في وقت قياسي، حتى أنه تم إصدار وتطبيق قانون يجبر المواطنين على ارتداء الكمامات تحت طائلة العقاب، قبل أن يتم توزيع هذه الكمامات في الصيدليات والمحلات المختصة ببيعها، وهو ما يؤكد أن الحكومة تفكر وتقرر بسرعة وأحيانا بتسرع غير محمود، قد يؤدي إلى انتهاك كبير لحقوق وحريات الأفراد. وهذا الأمر يدخل في إطار ما يعرف بمبدأ الهروب نحو القانون الجنائي، أي أن المشرع يحاول أن يعالج أي إشكال قانوني عن طريق الآلية الجنائية والزجرية، رغم أنه كان يمكن معالجة الأمر عن طريق إقرار فقط جزاءات ذات طبيعة إدارية أو مدنية، أو جزاءات بديلة للعقوبات السالبة للحرية. لكن مع ذلك قد نجد العذر للحكومة التي يمكنها تبرير هذا الكم التشريعي الزجري باعتباره مرتبطا بالتدابير القانونية والأمنية والقضائية الذي أرستها من أجل مواجهات آثار ومخلفات فيروس كورونا .
لكن في حقيقة الأمر فإنه بالنسبة لمشروع قانون 22.02 المتعلق بشبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البت المفتوح والشبكات المماثلة، يمكن التساؤل بكل جدية: هل هناك بالفعل حاجة آنية لإصدار قانون ينظم مجالا حساسا كوسائل التواصل الاجتماعي في وقت وجيز، وفي برلمان تغيب عنه غالبية ممثلي الأمة، وبهذه الحمولة العقابية والزجرية في جرائم تدخل في إطار حرية الرأي والتعبير؟ نعم، لقد انتشرت الكثير من الأخبار الزائفة منذ بداية تغلغل هذا الفيروس في بلادنا وقبل فرض الحجر الصحي وبعده، وتم اعتقال العشرات من المواطنين من مروجي هذه الأخبار الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتمت متابعتهم وإدانتهم بعقوبات سالبة للحرية، لكن على ما يبدو أن هذه الأخبار لم تكن بالخطورة التي تهدد النظام العام والأمن العام، لا سيما أن أغلب المواطنين أصبحوا لا يتسرعون في تكوين رأيهم وقناعتهم وترتيب الأثر على ما يصلهم من أخبار ومعطيات غير رسمية إلا بعد الاطلاع على البلاغات الرسمية والندوات الصحفية التي يقوم بها المسؤولون الحكوميون، إضافة إلى أن القضاء كما رأينا توسع في النص القانوني الجنائي وتابعهم في حالة اعتقال وأدانهم بعقوبات حبسية. وبالتالي فإن المنطق الذي فرضه الواقع يؤكد على أنه ليس هناك أي ضرورة مستعجلة من الناحية القانونية أو الواقعية للتسريع في بلوة و إصدار مثل هكذا قانون .
كما أنه بالتأمل في مضمون النص الجنائي الوارد في هذا المشروع، يتبين أن بعض اللوبيات هي من تقف وراء صياغته، وتريد من خلال هذا القانون استغلال الظرفية الحرجة التي تمر منها بلادنا جراء تفشي جائحة كورونا من أجل إدراج مقتضيات قانونية زجرية حماية لمصالحها مما يمكن أن يتهددها مستقبلا، وخاصة أولئك الذين تضررت مصالحهم جراء حملة مقاطعة منتجاتهم، التي تمت في إطار حملة المقاطعة الشعبية لهذه المنتجات والتي عرفت نجاحا كبيرا، بفعل التنسيق التي تم بين المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لا سيما أن البعض منهم أعضاء في الحكومة التي قامت بتهييىء هذا المشروع الخطير. ومن جهة أخرى يلاحظ أن السيد وزير العدل الجديد الذي من المفترض أن وزارته هي الوصية عن المشروع، لا يفقه شيئا في مجال العدل والعدالة والقانون، وأنه منذ تقلده هذا المنصب وهو يتعامل بنوع من السطحية مع قضايا الحقوق والعدالة سواء من الناحية القانونية أو المؤسساتية، ويتعامل مع القوانين التشريعية، كما لو كانت مناشير يمكن أن يصدرها في الوقت الذي يشاء، من دون لا تشاور مع الجهات المعنية ولا مع المتخصصين، ومن دون اعتماد أي مقاربة تشاركية مع الفعاليات المرتبطة بهذا بالمجال القانوني موضوع الإصدار. وهذا التوجه يحيلنا على طريقة التعامل التي سيتم اعتمادها مع مشاريع القوانين الأخرى التي مازالت عبارة عن مشاريع قوانين لفروع قانونية أساسية ومفصلية في المنظومة التشريعية المغربية، كالقانون الجنائي وقانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية، وقانون المحاماة .
لكن، وبالنظر لما ذكر أعلاه، ما هو التقييم الذي يمكن أن نخرج به حول مشروع القانون هذا من ناحية السياسة الجنائية من خلال هاته الصفحتين الرائجتين التي بين أيدينا؟
حينما نتأمل الصياغة التشريعية لمشروع القانون هذا، يتبين أنه يعبر عن سياسة جنائية جد متشددة، سواء من جهة الجانب التجريمي، أو من جهة الجانب العقابي. فمن الناحية التجريمية يتبين أن هذه الجرائم صيغت في إطار جرائم سلوك، أي أنها تتطلب فقط القيام بالفعل الجرمي وهو استعمال الوسائط المعلوماتية الاجتماعية من أجل الدعوى إلى مقاطعة بعض المنتوجات والبضائع والخدمات أو التحريض علانية على ذلك، وأيضا حمل العموم أو تحريضهم على سحب الأموال من مؤسسات الائتمان أو الهيئات المعتبرة في حكمها، إضافة إلى الترويج لمحتوى إلكتروني يتضمن خبرا زائفا من شأنه التشكيك في جودة وسلامة بعض المنتوجات والبضائع، وتقديمها على أنها تشكل تهديدا أو خطرا عاما على الصحة العامة والأمن البيئي، وذلك من دون أن تتحقق أي نتيجة معينة. فالجريمة ثابتة ومكتملة من ناحية الركن المادي بارتكاب هذا الفعل ولو لم ينتج عن ذلك نتيجة كإخلال بالنظام العام و الأمن العام. كما أنه من ناحية الركن المعنوي فإنها تتطلب فقط القصد الجنائي العام، أي العلم والإرادة، ولا تتطلب قصدا جنائيا خاصا كوجود سوء النية. فتأكد حسن النية لدى ناشر أو صانع المحتوى لا يؤثر في ثبوت ارتكابه لهذه الجرائم، فحتى لو ثبت أن قصده كان هو التوعية ومحاربة الفساد فإن حسن نيته لا ينفعه لتجنب العقاب. وهذا ما يؤكد قمة التشدد في السياسة التجريمية في النص القانوني لهذا المشروع قانون. وإذا أردنا إجراء مقارنة بسيطة بين جريمة نشر أخبار زائفة في قانون الصحافة طبقا لمقتضيات المادة 72 من هذا القانون وبين نشر أخبار زائفة في نص مشروع القانون هذا، سيتبين أن المشرع منح الصحافيين امتيازات لم يمنحها لمستعملي وسائل التواصل الاجتماعي، فهو اعتبر هذه الجريمة تامة وليس جريمة سلوك، وبالتالي تشترط أن تتوفر إضافة إلى الفعل وهو السلوك الإجرامي، النتيجة الإجرامية وهي الإخلال بالنظام العام والأمن العام، وأن تكون علاقة سببية بين السلوك والنتيجة. وبالنسبة للركن المعنوي اشترطت المادة 72 من قانون الصحافة توفر قصدا جنائيا خاصا وهو سوء النية، إضافة إلى القصد الجنائي، الذي هو العلم والإرادة، وبالتالي فإن عدم توفر سوء النية لدى الفاعل يجعل العناصر التكوينية للجريمة غير مستجمعة، ولا تكون هناك أي جريمة قائمة .
أما من ناحية السياسة العقابية فإن الحكم بعقوبات سالبة للحرية قد تصل إلى ثلاث سنوات حبسا نافذا، وعقوبات مالية تصل إلى حدود مبلغ خمسون ألف درهم، يدل أن الجانب العقابي متشدد جدا في هذا القانون، إلى درجة أننا إذا أردنا مقارنته بمقتضيات قانون الصحافة، ولا سيما المادة 72 من هذا القانون، التي تقرر عقوبة مالية فقط دون العقوبة السالبة للحرية في حالة ثبوت ارتكاب الجريمة بجميع عناصرها التكوينية. وبالتالي قد نصل إلى حالة غير عادلة ونوع من انعدام المساواة بين أشخاص يمارسون تقريبا نفس المهام لا سيما بالنسبة لصناع المحتوى الذي يكون أحيانا مضمون إنتاجاتهم أكثر قوة وجودة واحترافية من الإنتاجات الإعلامية والصحفية لبعض الجرائد الإلكترونية، لا سيما في حالة نشر منبر صحفي إلكتروني محتوى يدخل في إطار الجرائم المنصوص عليها أعلاه، ويتم نشرها وتداولها بين مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي؟ ففي هذه الحالة رغم أن الجريدة الإلكترونية هي مصدر الخبر أو المحتوى المجرم، فإن مدير نشرها الذي يعتبر فاعلا أصليا والصحافي صاحب المحتوى المباشر باعتباره شريكا يتابعان فقط وفق الامتيازات التي وفرها لهما قانون الصحافة، ولا يعاقبان سوى بعقوبات مالية عبارة عن غرامات مالية. بينما الأشخاص الذي تداولوا الخبر أو المحتوى المجرم يتابعون ويحاكمون من دون أي امتيازات خاصة، وفي نفس المحاكمات التي تجرى في حق مجرمي الحق العام، وبعقوبات حبسية نافذة قد تصل إلى ثلاث سنوات، وغرامات مالية قد تصل إلى خمسين ألف درهم. وهذه المعطيات تبين أنه إضافة إلى التشدد التشريعي في النص المتعلق بالقانون 22.02، فإنه يقر نوعا من اللامساواة وانعدام العدالة بين المواطنين .
أخيرا، فإن الخلاصة التي يمكن أن نستخلصها في إطار ما ذكر أعلاه، هي أن هذا القانون متسرع وتتم محاولة استغلال أزمة جائحة كورونا من أجل إصداره في زمن قياسي من دون اعتماد أي مقاربة تشاركية، ويتضمن العديد من العيوب من جهة الصياغة ومن زاوية السياسة الجنائية، وأنه سيستعمل كغطاء لحماية بعض اللوبيات التي تحاول حماية مصالحها ولو ضد الإرادة الشعبية. وأنه في حالة مصادقة البرلمان عليه ونشره في الجريدة الرسمية، سيتم حينئذ وضع كمامة دائمة على حرية الرأي والتعبير ببلادنا، مع ما يستتبع ذلك من قمع وانتهاك للحقوق والحريات الفردية والجماعية التي ضمنها الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب.