بما أنني كائن هشٌّ، لا يَعرِف ما هو جوهر الحياة، ولا ما هو جوهر الموت، ولا ما سيحدث إذا ما أنا سبَحتُ خارجهما بفكري، ومنحتُ طاقاتي لزمنٍ غيرِ زمنِ الحياة، وغير زمن الموت، وتَخلَّيتُ عن جاذبيتهما بلذَّة الحِياد. هل سأكون ورقةً في شجرة الروح، لا تُصوِّحُها رياحهما؟ وهل سأمشي على سِيف الزمن ضوءا يهدي سفنَ الآتين من شهوةِ المغامرة بأَذْرعِ عنادٍ فضّيٍّ؟!
أُدرِك أن الحياة وجهة، وأن الموت وجهة، وأنني أُمارِس فيهما التخلِّي مُمارسةَ ماءٍ يَحفرُ مَجراه في تُربة لم تُخلَق بعدُ.. تربة لا تَنبتُ فيها سوى الأحلام العذراء، ولا تَسِير فيها غير أقدام الرغبة. لا وِجهةَ لي غير وجهة ذاتي، لا أُريد التعلُّق بالمألوف والمعلوم كطريقةٍ للإحساس بالأشياء، بل بالمجهول كطريقةٍ للإحساس بما وراء الوجودِ، والتجذُّرِ فيه بأمانٍ لا يَرضع من ثدي الوهم.
فالحياة التي نعتقد أننا نحياها ما هي سوى خرقة تُمعِن في تمزيقها أعاصيرُ الموت الخَفيةُ، نَختفي بعدها، ونَطيرُ هباءً في عين العدم، حيث نسمع النشيدَ الأزلي، نشيدَ الظلام الذي يتحدَّث عن نفسه قائلا:
(أنا تاريخ العالم وروحه وهواه
وليس الضوء، إلا خدعةٌ
اخترعتُها لأُضَلِّل الأحياءَ
عن حقيقة موتهم
وأعجنُ الجهات
أنا السيدُ أقُودُ قطعانَ الضوءِ
نحو المهاوي المعتمة
أنا الفراغ الكبير والمصير)*.
إنها تُؤخَذ منا فجأة حين نخال أننا نأخذها، لأننا كنا نريدها لأنفسنا فقط، فنَكنِز منها المزيدَ والمزيد، مشتعلين بحُمَّى التَّملُّك التي تُصوِّر لنا الوجودَ بأنه نحْنُ لا سوانا. وتلك هي اللبِنة الناقصةُ في بناء ذواتنا، والتي منها يدخل إلينا الموت على صهوة القهقهة، غير مبالٍ بأوهامنا وتمنياتنا، وتعسُّفاتنا واحتيالاتنا.
عندما فطنتُ إلى هذه اللبِنة الناقصةِ في جدار ذاتي تخلَّيتُ عن وجهتَي الحياةِ والموتِ، ويمَّمتُ وجهةَ بيتِ قلبي، عدتُ إليه لأطهِّره، وأسُدَّ الثغرةَ التي يَدخُل منها الفناءُ بلبِنةّ مربَّعةٍ مَجبولةٍ من أربعِ كلمات:(لا تَطلبْ شيئاً لنفْسِك).
وضعتُ اللبنةَ في الموضع الخاصِّ بها في جدار القلب، فرأيتُ كرةَ الأبَدِ تَطُوف بي، ورأيتُني لا أحتاج إلى الأشياء، وإنما الأشياء هي التي تحتاج إليَّ لتُثبتَ وجودها، وتستمرَّ فيه دون نقصان. وكلما طافتْ بي كرةُ الأبَد تلك سافرتُ في زمنٍ غير زمن الحياة والموت، وفي أكوانٍ لم أكن لأعْلمَها لو لم أُطهِّر قلبي من الأشياء، ومن طلبِ الكثير والمزيد.
فالفرح الحقيقي، والرضا التام، لا يأتيان إلا من عَدمِ امتلائنا بالتعطُّش واللهفة، ومن عدم اللهاث خلفَ ما هو فانٍ.
هوامش:
*سيف الرحبي:حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة، ط1، كتاب (دبي الثقافية)، الإصدار30، منشورات دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، دبي نوفمبر 2009م، ص:23، 22.