وقف يتأمل نفسه في المرآة، اكتشف أن شعره قد أصبح أشعثا ولحيته قد تدلت بطريقة عشوائية مقززة، شاربه الذي يغطي شفته العليا أصبح يميل إلى الاصفرار من كثرة التبغ الرخيص الذي لا يفارق شفتيه، عيناه شاحبتان وغائرتان، لم يدر متى وقف هكذا أمام المرآة لآخر مرة، قد يكون منذ أسابيع أو شهور.
حالة الكآبة التي تبدو على وجهه لم تكن تعكس الفرح الذي في داخله، كان يشعر كأنه يولد من جديد، ينبعث من جديد.. عندما رن هاتفه قبل قليل وسمع صوتها تعرف عليه بسرعة وكأنها لم تغب عنه كل هذه السنين، كانت في صوتها بحة فرنسية جميلة، لم تدم المكالمة سوى دقائق قليلة، لكنها كانت كفيلة بأن تغير كل حياته! أخبرته أنها بخير بأن وطفلتهما قد كبرت وهي الآن تلميذة نشيطة تذهب إلى المدرسة وقد احتفلت الأسبوع الماضي بعيد ميلادها الخامس.. هو لم يقل شيئا كان فقط يستمع إليها، كانت صوفيا تريد أن تختصر حكايات كل السنين في تلك الدقائق القليلة، وجد نفسه يقاطعها ويقول متوسلا، بصوت منكسر:
– هل يمكن أراك وأرى طفلتي؟
– نعم حبيبي، هذه المرة لن يفرقنا بيننا أحد، أبي لم يعد بمقدوره أن يقف في وجه مستقبلنا، لقد ترك قصره الباريسي الذي سجنني فيه وثروته وأملاكه إلى غرفة في إحدى المصحات.
وجد نفسه مرة أخرى يقاطعها متوسلا وبصوت منكسر:
– هل يمكن أن أراك و أرى طفلتي؟
– نعم زوجي، لقد وصلت بالأمس إلى هولندا لنظل معا طول العمر.
أتذكر عزيزي عمر عندما كنت حاملا بطفلتنا وكنا نذهب إلى مدرسة القرية خارج المدينة، نجلس فوق التل، نتفرج على الأطفال يلعبون ونتخيل طفلتنا معهم تلهو، لقد سجلت ابنتنا في تلك المدرسة، ما رأيك عزيزي أن نلتقي هناك في الساعة الرابعة وقت خروج التلاميذ؟
كان عمر واقفا أمام المرآة وهو يعيد شريط ذكرياته السابقة، حين التقى صوفيا على أحد مدرجات الجامعة في أمستردام، شعرا منذ اللحظة الأولى أنهما قد خُلقا لبعضهما البعض، قررا أن يتزوجا، رغم معارضة والد صوفيا الذي لم يستوعب تزويج ابنته ووريثته الوحيدة بعربي ذي بشرة داكنة! ذهب عمر إلى المغرب لزيارة والدته المريضة وعند عودته كانت صوفيا قد اختفت من الوجود، أخذها والدها عندما علم أنها حامل وحبسها في أحد قصوره الباريسية.
طوال هذه السنين لم يتخل عمر عن هاتفه الصغير، كان يراوده الإحساس بأنها قد تتصل به يوما.. وجد نفسه مرة أخرى ينظر إلى وجهه في المرآة، شعر بمدى إهماله لنفسه، أخذ مقصا وموسى حلاقة وبدأ في ترتيب حالة شعره ولحيته وهو يقول ضاحكا:
“لو ذهبت هكذا للقائها فحتما لن تتعرف عليّ صوفيا، أما الطفلة فقد تصاب بالخوف من هذا الغول.
وجد أن ثيابه بالية ممزقة لا تليق بهذا اللقاء، فتح حقيبة كانت تحت السرير، أخرج منها بدلة زرقاء وقميصا أبيض كان قد لبسهما يوم عقد قرانه بصوفيا.. كانت الدقائق تمر بطيئة جدا، نظر للمرة المئة إلى ساعة هاتفه، شعر كأن الوقت لا يتحرك، خرج من بيته الصغير، ركب دراجته وتوجه خارج المدينة، وجد نفسه قرب المدرسة، صعد التل، أصبحت كل المدرسة مكشوفة أمام عينيه، كان من الصعب أن يتحكم في مشاعره وإحساسه، شعر بأنه قريب منها لا يفصله عن ابنته التي لم يرها قط إلا خطوات.
وجد نفسه يناجيها: “لن أتركك بعد اليوم صغيرتي، سوف نعوض كل الحرمان، نتسلى معا كل الوقت.. نركض، نقفز ونلعب وعندما تشعرين بالتعب صغيرتي، اصعدي على ظهر الحصان.. أنا حصانك الذي يعشقك.. في الليل قبل أن تنامي سوف أحكي لك كل الحكايات الجميلة، ستعجبك قصصي وتطلبين مني المزيد، لكن صوفيا والدتك تريدك أن تنامي باكرا، سوف نتوسل إليها أنا وأنت من أجل حدوتة أخيرة.. تسمعينها وتنامين كملاك..”.
شاهد أن الأطفال يخرجون إلى الساحة، درجة انفعاله وشوقه وحنينه وصلت إلى الحد الأقصى، وجد نفسه يبحث بلهفة عنها بين كل تلك الوجوه الصغيرة، يناجيها مرة أخرى. “أكيد سأتعرف عليك صغيرتي.. الدم الذي يجري في شرايينك الصغيرة من هذا الدم الذي في جسدي.. فقط إحساسي هو من سيقودني إليك.. من حيث لا تدري صغيرتي روحك تشعر الآن بوجودي بقربك وحتما سوف تنادينني.. أستطيع أن أميزك من بين آلاف الوجوه”.
كانت عيناه مشرعتين تتحركان بسرع،ة تجوبان كل محيط المدرسة وفجأة رآها، إنها هناك تلعب.. اختلطت ضحكته ببكائه وهو ينظر إليها، وجد نفسه ينزل جريا من التل، يقترب من سياج المدرسة، أصبحت أكثر قربا منه: “آه كم هي جميلة، تشبه صوفيا، شعرها الأشقر، أنفها الصغير وخوختان تزينان خديها عندما تضحك، أما عيناها العسليتان فهما لي، تشبهان عينيّ، أكيد أن صوفيا كانت سعيدة، أكثر شيء كانت تعشقه هما لون عينيّ العسلية”.
بدأ الآباء يتوافدون على المدرسة، لم تأت صوفيا بعد، بدا القلق واضحا عليه وعلى تعابير وجهه، أخذ يبحث عنها بين وجوه الآباء القادمين إلى المدرسة، لم تكن بينهم، يخاطب نفسه بمرارة وحزن كبيرين: “ترى ما الذي أخرها؟ أرجوك صوفيا دعيني أراك.. لم أعد أحتمل.. إرحمي هذا القلب، إرحميني.. لا أستطيع الانتظار أكثر”.
عاد مرة أخرى يبحث عن ابنته في وسط الساحة، لم تكن هناك، كأن الأرض انشقت وابتلعتها، وجد نفسه داخل ساحة المدرسة، كان في حالة هستيرية تدعو إلى كثير من الشفقة، رأته المديرة، أخذت بيده وأدخلته الإدارة، قدمت له كوب ماء وأجلسته حتى يهدأ.
– ما بك سيدي، كيف يمكنني أن أساعدك؟
– نعم، أبحث عن ابنتي، رأيتها قبل قليل هنا تلعب في الساحة.
– طيب ما اسمها؟
تلعثم عمر قبل أن يجيب:
– عندما هاتفتني والدتها لم تخبرني عن اسم ابنتي.. وأنا لم أسألها.. يوم علمنا أن صوفيا زوجتي حامل بطفلة كان ذلك في شهر أبريل، اتفقنا ساعتها أن نسميها نيروز يعني فصل الربيع.. نعم ابنتي اسمها نيروز -ابتسم وهو يمسح دموعه- ابنتي اسمها نيروز، فصل الربيع!
أخذت المديرة سجل التلاميذ، لم تجد الاسم ضمن اللائحة.
– آسفة سيدي لا يوجد هذا الاسم في مدرستي.
أشفقت عليه كثيرا مديرة المدرسة وهو يبكي كطفل صغير، أخذت هاتفه من جيب معطفه، لعلها تستطيع الحديث مع أحد من معارفه ليأتي فيأخذه إلى المنزل، لم يكن في مذكرة الهاتف إلا رقم واحد لامرأة تسمى ماريا:
– ألو من معي؟
– أنا الدكتورة ماريا.
– أهلا دكتورة، أكلمك من مدرسة القرية، معي السيد عمر هل تعرفينه؟
– آه، يا إلهي.. هل عادت له الحالة من جديد؟ كنت قد نصحته ألا يتوقف عن تناول الدواء.
– ماذا تعنين دكتورة؟
– زوجة السيد عمر كانت قد ماتت على إثر حادثة سير، كانت حاملا في شهرها السابع، والدها الفرنسي الأصل أصر أن تدفن في بلدته.. عمر كان مسافرا وعندما عاد لم يجدها، ومن يومها دخل السيد عمر في أزمة نفسية حادة يُخيل إليه، مجرد يخيل إليه أشياء غريبة.. المهم حاولي أن ترفقي به سوف تصل سيارة المستشفى.