القرية تستيقظ كعادتها قبل أن تستيقظ الشمس، أول من ينفض عنه بقايا النوم هن النساء، ليبدأن رحلة الأشغال التي لا تنتهي. هناك من يعتقد أن أوضاع النساء في البوادي قد تغيرت! ولكن الحقيقة تقول العكس، لا شيء تغير. صحيح أن وصول الكهرباء ووصول التلفزيون قد غير قليلا من التوزيع الزمني على مجمل الأنشطة اليومية، ولكن جلب الماء من العيون، جلب الحطب من على ظهور السفوح، جلب العشب، والاشتغال في الحقل ورعاية الدواجن.. كل شيء باق على حاله. حين أجالس امرأة مسنة أطلب منها أن تحدثني عن الحياة الماضية، كيف كانت؟ هل كانوا سعداء أكثر منا؟ أريد أن أعرف مقاييس السعادة بين الماضي والحاضر؟ وتجيبني بكل أسف وحسرة: ” نعم كنا سعداء أفضل من الآن.. كانت البركة حينها هي سر هذه السعادة، بنيتي.. ” ولكن ما هي البركة؟ كيف تتأتى هذه البركة؟ ولم لم تعد هذه البركة موجودة؟.. كيف كان الناس ينامون على أسرة طينية بدون ألحفة؟ كيف كانوا يقطعون المسافات الطويلة بلا أحذية؟ كيف كانوا يكسرون جذوع الأشجار بأذرع عارية؟ كيف استطاعت النساء أن تتحملن الحمل والولادة والرضاعة كل سنة؟ وماذا كن تفعلن بلا حفاظات لهن ولأطفالهن؟..
ذات مرة سألت سيدة طاعنة في السن ولكن ذات ذاكرة جيدة، تحكي لي قصصا كثيرة عن الماضي، عن الحب والجنس والخيانة ومكائد النساء. قلت لها: ” ماذا كنت تفعلين حين تتسرب دماء الحيض والنفاس من تحتك وأنت لا تمتلكين خرقا ولا حفاظات؟” ابتسمت وتغيرت خارطة تجاعيد وجهها ثم ضحكت وفهمت كل شيء. قمت إليها وقبلت يديها وعانقتها وكأني أعانق ذلك الماضي المتعب الجميل.
معا يدا بيد، مبادرة المجلس الأوروعربي للفكر والدراسات في زمن الكورونا