متلازمة الدّونية والخنوع: أخطر مرض بين المغاربة – د. محمد الشرقاوي

0
603

يزداد شعوري بالحنق والقنوط في ظرف أسبوعيْن من مشهديْن معبّريْن عمّا استشرى في نفوس المغاربة وتخيّلهم الفردي والجماعي لمفهوم السلطة وطقوس البروتوكول العتيقة. كان المشهد الأوّل في مؤتمر سوتشي عندما أمعن رئيس الحكومة سعد الدين العثماني في “فروض” الاحترام أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أما المشهد الثاني فكان في سيدي قاسم عندما اندفعت سيّدة مغربية، سواء بوعي أو بلاوعي، لتقبيل يد إفانكا ابنة الرئيس ترمب، وكأنّها تُفرغ في طقوس الخنوع كلّ مالديها من هواجس تصغير الذات، وتغييب العزة الوطنية، والتكالب والخنوع في حضرة ابنة الرئيس. وكما قال أحد الأصدقاء، هي “سطوة التّقاليد حين تخرج عن سياقها المحلي وتصبح تعبيرا عن الذّل”.
هي أوّل تقبيلة يد سياسية بحمولة انتروبولوجية مثيرة في التاريخ الأمريكي بلا منازع منذ قيام الولايات المتحدة قبل 243 عاما، بعد أن قطع المهاجرون الجدد صلاتهم مع التركة الثقافية وتبعيتهم السياسية لأباطرة أوروبا آنذاك. وتمسّك بعدها الأمريكيون بفلسفة المواطنة الواثقة من ذاتها، والفخورة بقيمها، وذات العمود الفقري المستقيم في وجه السلطة والرئاسة والثراء والنفوذ. لم يكن جدّ أبيها فريديريك درامف Frederick Drumpf (قبل أن يغيّر اسمه إلى ترمب)، الذي جاء من مملكة بافاريا في ألمانيا ليعمل حلاّقا ومدير فندق في حيّ Queens في نيويورك، يعلم أنّ المغاربة سيُتوّجون إحدى حفيداته إفانكا تتويج النبلاء الجدد، ويمنحوها لحظة “امبراطورية” لم تحصل عليها من 325 مليون من مواطنيها الأمريكيين. وليس من الممكن تخيّل هذا المشهد في إسبانيا أو تركيا أو حتى منغوليا التي تتشبّع شعوبها بحسّها القومي، وأنفتها الاعتبارية، وكرامتها الوطنية، دون تفريط بقناعة الذّات بمقامها وهوّيتها ولغتها وحضارتها.
ينمّ سلوك تلك السيدة المغربية الطيبة أو بالأحرى “البوّاسة”، على غرار ما فعله العثماني “المهذّب فوق العادة” في سوتشي، عن تشبّع حتى النخاع بما يصطلح عليه المغاربة ب”الهيبة” من السّلطة، ومن أصحاب القوة والمركز الاجتماعي، وبقية تجليات سيطرة اللاوعي على الوعي الفردي في مثل هذه المواقف. هو تجسيد تلقائي لمركّب الحتمية النفسية الصلبة التي تنفصل عن مفهوم السببية، وتمتد بعيدا في التحليل النفساني السلوكي. كما أنّها حتمية في السلوك والتعبير عن الدونية تتواتر بين حدث نفسي معين بسبب حدث نفسي دون تدخّل عامل مادي، وهذا ما يستحضر أيضًا فكرة اللاشعور النفسي. وعلى هذا المنوال، لا ينفك كل “العثمانيين” وكل “البوّاسات” و”البوّاسين” عن تكرار هذا السلوك في حضرة أي كان من رموز القوة في الداخل والخارج.
هي مشاهد غير منطقية في مغزاها الوطني وبئيسة في رمزيتها أمام الرّأي العام العالمي، عن مغرب القرن الحادي والعشرين، مغرب طارق بن زياد، ويوسف بن تاشفين، ومغرب الحركة الوطنية التي لم تخنع للمارشال إيبر ليوطي ولم تقبّل يد حماة فرنسا في المغرب. ومع تلاحق هذه المشاهد الخنوعة بامتياز، يتساءل المرء إلى أيّ مدى ستظل متلازمة الدونية والخنوع منتشرة على نطاق واسع وإن نجح المغرب في القضاء على داء السلّ والجذري والكوليرا. يبدو أن السجلّ الصحي البدني والعقلي والنفسي لدى المغاربة غير متوازن، ويحتاج علاج أمراض هذا المجتمع المتهالك لأكثر من إبر ولقاحات ومضادات حيوية.
أجدني أعود مجددا إلى اجتهادات ألفريد أدلر وسيغموند فرويد حول مركّب الدونية في علم النفس الفردي ونظرية غوستاف لوبون حول مزاج المجموعة البشرية. فهو يلاحظ أن المنطق “سمة من سمات الإنسانية ذات التاريخ الحديث للغاية والتي لا تزال غير مكتملة بحيث لا تكشف لنا قوانين اللاشعور، ولا تزال تأخذ مكانها. والدور الذي يقوم به اللاوعي في جميع أعمالنا هو دور هائل، والذي يتولاّه العقل صغير جدًا. الأفعال اللاواعية تفعل في البشر مثل القوة التي لا تزال مجهولة.” يظل هذا اللاوعي المغربي المشترك هو “صندوق العجب” الذي يخفي الكثير من مكنونات الشخصية المغربية ومزاج “التمغربيت” المغيبة.
يبدو أنّ الأستاذة عائشة معزوز تصيب عندما تطالب وزارة التّعليم “بإدماج مادة الاعتداد بتامغربيت في المناهج التربوية”، ووزارة الصحة “بتوجيه البحوث العلمية و ميزانياتها قصد الاشتغال على ايجاد مصل علاجي و لقاح وقائي للقضاءعلى متلازمة الذّل والدونية.”
أسمتُيها السيدة الطيبة “البوّاسة” وأكنّ لها كل الاحترام الشخصي بعيدا عمّا يُسقطه البعض بأنه “تشهير”، كلّا، ليس من شِيَمِي شتمُ الأعراض أو تقزيم بني وطني. لو كانتْ لي فرصة لقاء هذه السيدة الطيبة، فسأقبّل رأسها وأمنعها من تقبيل يدي. هي مثال بسيط من عشرات الآلاف من “البوّاسين” و”البوّاسات” على اختلاف درجات تعليمهم ووعيهم الاجتماعي حتى لا أقول السياسي. ما قصدتُه في التدوينة يتجاوز هذه السيدة سواء قبّلت يد إيفانكا تعبيرا عن “تقدير الضيف” بشكل تلقائي حسب الأعراف المحلية، أو كانت تقبيلة “منفعية” على طريقة “إذا كانت حاجتك عند الكلب، قول له سيدي كلبون”. فيصبح حفر الآبار في المغرب تجارة لترويج البوس والتقبيل وربما سلوكيات أخرى قد يبتكرها بعض اللاهتين وراء فتات منفعة.
القضية في جوهرها هي خنوع المغاربة العاديين والمثقفين والسياسيين، وذوبان لونهم اللغوي والثقافي والحضاري في حضرة الآخر سواء كان مشرقيا أو غربيا. أينما أدير وجهي، يتأكد لي أنّ متلازمة الدونية والخنوع أصبحت آفة يتآكل بفعلها الرأسمال المعنوي للمغرب والمغاربة. هي دونية متغرّسة تُفقد أغلب المغاربة الثقة بالنفس، وتجعل كبرياءهم يموت في صدورهم قبل ان يولد.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here