دراسة نقدية في قصيدة (نهج شوقي) للشاعر ماهر الأمين :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التأليف ليس صنعة يتعامل معها كل من أراد اللهو أو من أراد إغراق الساحة بالنتاج الأدبي الغير منضبط والغير مبني على أسس وركائز الصنعة والحرفة، فليس كل ما يُنتج يدخل في باب الروائع والأدب الجميل والبديع. لذا عندما نختار نظماً من نسج الشاعر العربي المصري (ماهر الأمين) ذو الثقافة الأزهرية، فإننا نجد فيه فوائد نقدية ممتعة رغم حداثة عهد الشاعر بالتأليف، إلا أن الموهبة الفطرية، والثقافة الأدبية، ونشأته في كنف والده الشاعر الأزهري الذي كان له الأثر الكبير في توجيه دفة (مَلكَـته ) التأليفية، إضافة إلى ركونه إلى الدرس بشغف وانضباط، وهذا ما لمستهُ فيه عند تبادل الفائدة والدرس بيننا، فوجدته كالطير الخبير لا يلتقط من الحب إلا البطين، وكان (أدب النفس) عنده هو الرتبة المتقدمة على (أدب الدرس)، وهذا الأدب من لوازم أدب المهنة بل ومن أسسها وثوابتها. والتقدم التأليفي للشاعر الأمين، وفوزه بجوائز أدبية عِدَّة جعلتْ منه قلماً يحمل بصمة الإبداع والالتزام رغم أن مجال عمله مغاير لحاله الأدبي تماماً، فهو يحمل الماجستير في الحقوق، ويبدو أن معرفته بعالم القوانين جعلت من بداهتهِ عالما تحفُّ به النباهة والالتزام .
خلال مسايرتي لحركة النظم لدى الشاعر الأمين منذ بداية مشواره الأدبي وحتى اللحظة، وجدته يترجم الفكرة في قطعةٍ أدبية حتى وإن كانت بيتا واحدا، فهو يفرغها تماما ثم يمسك وينصرف، فلا يزيد على النص تكلفاً مما يجعل النص مشوشاً، فهو يبدأ بالتأليف بما يداخله من انفعال ذاتي ثم يقفل النص عند زوال المؤثر، وهذه من أروع السجايا في التأليف، كون التأليف هو انعكاس للشعور وترجمة لإرهاصات الذات خلال تأثر الذات خلال حَيّز زماني ومكاني معين، فلا فائدة بعدها من التأليف عند زوال المؤثر وبرودة الانفعال، وهذا ماسيظهر جليّاً واضحاً في نظمه. فلحروف أي شاعر ثر كبير في ذات المتلقي من خلال اختياره للألفاظ والمعاني، ونوع القافية، وسلاسة السبك، ومتانة النسج، ووحدة الموضوع، وجمال الصورة الشعرية .
ـــ النص الذي أمامنا قصيدة (نهج شوقي) من نظم الشاعر ماهر الأمين، وهو نظم يدخل في باب المديح، وللمديح معجمه الخاص به، ونظم المديح يتميز باختيار الناظم للبحور التي تتميز بمساحات واسعة، وتفاعيل كثيرة تتميز بالنفس الطويل … نُسجت على البحر الكامل والذي يعتبر من أكثر البحور الشعرية إثراء، فهو يصلح لكل الأغراض والمرامي الشعرية، وقد استعمله الشعراء القدامى والمحدثين.
ـــ الثقة بالنفس :
الذي سَرّني في هذا الأمر هو ثقة الشاعر (ماهر الأمين) الكبيرة بقلمه، ورصانة أسلوبه عندما جعل عنوان قصيدته هو (نهج شوقي)، فليس من الممكن في عالم الأدب المجازفة بهكذا عنوان. وإن المقاربة من نهج شوقي هو نوع من المغامرة، لأن لشوقي ما لشوقي من جزالة لفظ وفصاحة وبيان وخبرة وإتقان. لذا فإن العنوان هو العتبة الكبيرة والمهمة لأي نص أدبي، فهو مفتاح الناقد بل ومصدر الانطلاقة للمؤلف الحذق، حتى وإن نُسج العنوان في نهاية العمل مُستنبَطاً من المعنى العام أو مُجتزَأ من أحدِ الأشطر، فبكل الأحوال هو باب دلالة وتعريف وإشارة.
لذا فلابد عند الإبحار في هذه الدراسة النقدية المكثفة الإشارة إلى نوع من المقارنة والإشراقات بين النسجين لشوقي وللأمين، لمعرفة إحداثيات وبؤر الجمال، والمقاربة في تشكيل الصور الشعرية.
ــ اِختيار النهج :
بفعل قربي من الأستاذ ماهر الأمين بحثا ودرساً، فلستُ مستغربا من هذا العنوان، لأن الشاعر أراد إبعاد فكر المتلقي عن الظن باقتطافه واختطافه لأفكار الآخرين والتلاعب معها بخفية، إنما جاء التعريف واضحا جَلـيّاً ناصعاً بأن النسج الشعري سيكون على (نهج شوقي)، والنهج يعني الأسلوب والطريقة، وكذلك أراد الشاعر أن يعمل، كما فعل شوقي حين نسج قصيدته المعنونة (نهج البردة) على منوال قصيدة الشاعر الكبير (البصيري) عندما نسجها بنفس البحر والقافية.
إذاً هذا السلوك هو ليس ضعفاً في القلم أو عدم اتزان في الاختيار، بل هو من باب الأدب الرصين، والاحترام للنتاجات الكبيرة الواعية والمبدعة. فالشاعر ماهر الأمين نسج قصيدته (نهج شوقي) بذات البحر والقافية التي نسج بها شوقي قصيدته (ولد الهدى)، وقد ترجم ماهر الأمين هذا النهج عندما أشار في البيت الشعري السابع من قصيدته الرائعة ذات الخمسين بيتاً :
” أوّاهُ شوقــــــــــــــــــي والمديح وقوله… (ولد الهدى فالكائنات ضياءُ) “
حيث حصر الشطر الثاني بين قوسين، كونه يُنسَب إلى قصيدة أحمد شوقي، وقد أراد بذلك نهج المديح لشخص النبي المصطفى محمد (صلى الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين وصحبه المنتجبين). وهذا ما سيتضح من خلال دراستنا للنص.
ـــ متانة السبك وسلاسة النسج :
القصيدة سُبِكَتْ عباراتها بمتانة، ونُسجتْ أبياتها بألفاظ فصيحة سلسة واضحة البيان، بعيدة عن كل ما هو غريب من المفردات والكلمات أو تلك التي لم يعتادها السمع إلا في مفردتين ( هامعاً ، هتَّـانة ) وردتا في البيت الشعري الثاني :
” وجرى هُيَامُك َهامعاً فــي إثرها … هتّانةٌ لـــــم تشتفي ورجاءُ “
واللفظان يحملان معنى : سَيّالاً والجريان بغزارة.
وهذا لا يشكل كبوة في النظم أو عيبا وضعفا في كيان النص، إنما تأتي هذه المفردات بشكل تتناثر فيه لغرض البلاغة وقوة تأثير الصورة، وحتى الشاعر أحمد شوقي قد جاء في نسج قصيدته (ولد الهدى) بمفردات من القاموس القديم الغير متعارف عليها بين العام إلا الخواص وأصحاب الحرفة واللغة مثل: ( طغراء ، قعساء) واللفظان معناهما : العلامة التي تكتب فوق الكتب السلطانية والأوامر الملكية، ومعنى الثانية : المتانة والثبات …. كما جاء في البيتين التاليين :
” نظمت أسامي الرسل فهي صحيفة … في اللوح واسم محمد طغراء “
” هــم أدركـوا عـــز النبـوة وانتهـت … فيهــا إليـك العزة القعســــاء “
ونظم المديح لا بد أن يمتاز بالصياغة الأنيقة الواضحة البيان والسهلة الورود إلى الأذهان، فهو خطاب موجَّه للعام أكثر منه للخاص.
ـــ البصمة والأسلوب :
استطاع ماهر الأمين أن يأتي بمطلع مغاير تماماً في فكرته ومضمونه عمّا جاء به شوقي، وبإشارة بارعة استطاع الدخول إلى المضمون وهو المديح لشخص المصطفى، حين ذكر عجز أحد أبيات شوقي وحصرها بين قوسين كما في أعلاه، وبعدها استمر في نظمه الرائع بالمديح. فقصيدة شوقي بدأت بعبارة (وُلدَ الهدى) وهو دخول مباشر إلى القصد والهدف منذ البداية، أما الشاعر ماهر الأمين فقد اختار أسلوبه ومطلعه الخاص به حينما استعمل أسلوب المناجاة والهيام المصاحب للأشواق، وقد زخرف المطلع بأجمل الزخارف اللفظية، حتى بدَتْ كالجُمان المتناثر على إكليل عروس . فكان مطلعها :
” سُرّتْ عيــــــــــــــــــونك إذ تقطَّر ماء … وانزاح همـك أن أتاك رواءُ “
فجعل انسكاب الدمع هو الراحة للنفس، وكم هو جميل عندما يجعل الدمع سببا للارتواء، وهذا الدمع هو دمع شكوى بين يدي المصطفى، ثم يردف هذا البيت الشعري بالأبيات التالية لتكون مطلعاً رخيماً :
” وجرى هُيَامُك َهامعا فـــــــــــــي إثرها … هتّانةٌ لـــــم تشتفي ورجاءُ
لله أمــــــــــــــــــــــركَ ما تأنّقَ مادحٌ … ومن المديــــحِ تصبُّرٌ وعزاءُ
وشكاةُ همك فــــــــــي رقادك والسُّرى … ولطالما ضاقت بها الأحشاءُ “
فيا لها من صورة شعرية أخّاذة، ويا له من مطلعٍ مهيب، وكيف لا ؟؟ والشاعر ماهر الأمين يأخذ بصحن الفائدة والدرس حتى يأتي عليه بالكامل، فهو يعرف جيداً ماذا يعني المطلع والابتداء في القصيدة.
ـــ التشاكل الصوتي :
المُتمعّن في موسيقى النص يجد تشاكلا صوتيا في أصوات بعض الحروف، فمثلا في البيت الشعري التالي :
” والحسنُ فيك جـــــلاؤه وجلالُهُ … أنت المليـــحُ ووجهك الوضّاءُ “
نجد حالة تكرار حرف (اللام ) في مفردتي : (جـــلاؤه وجلالُهُ)، مما أعطتْ البيت الشعري حلاوة وطلاوة في النطق وفي إغراء أذن المتلقي للاستقبال، إضافة إلى انسيابية النطق، كون حرف اللام يعتبر من حروف الإذلاق الذي يمتاز بخفة النطق والسرعة، فهو يخرج من طرفي اللسان والشفة.
إن معنى لفظتي : (جـــــــــــــلاؤه وجلالُهُ) هو الوضوح والبيان والعظمة، وأن تتابع صوت حرف (اللام) فيهما أعطى قيمة تعبيرية خاصة وكبيرة وعظيمة لشخص النبي، وهذا يتضح جليّاً عند إكمال البيت الشعري في الشطر الثاني : (أنت المليـــحُ ووجهك الوضاءُ ).
ـــ الجِنـاس :
توفر الجناس بصوَرهِ الكثيرة والمتنوعة في معظم أبيات القصيدة يدل على توفر النكهة البلاغية وخبرة الشاعر في انتقاء الألفاظ، فجاء (التجنيس المماثل) في لفظتي : (مادح ، المديح ) و ( مبطل ، المبطلون) و (الصادق ، المصدوق) و ( حنيف ، حنفاء ) و (الذاكرون ، ذكرهِ) و (أنال ، ينال ) في الأبيات التالية :
” لله أمـرك ما تأنّقَ مـــــــــادحٌ … ومن المديـحِ تصبُّرٌ وعزاءُ “
لولاهُ لارتابـــــــوا وجادل مُبْطِلٌ … والمبطلونّ لِمـَــــنْ هَـدَى أعداءُ
الصّادقُ المصــْــــدوقُ أنت وإنّما… تَعْمَى القلــــــوبُ فما لذاك دواءُ
صلَّيتَ بالصَّحبِ الكـــرام حنيفُهم … وهُمُ وقد فرحــــــوا بك الحُنفاءُ
يا مـــن يطيب الذاكرون بذكرهِ … لي فـــــي مديحك حاجةٌ ورجاءُ
عفو الـــــكريم وان أنال شفاعةً … ما قــــــــــد ينالُ بمدحك السعداءُ “
ثم جاء (التجنيس المغاير) في لفظتي : ( تنمحي ، محوها) و (غضبتَ ، غضبة) و (رضيتَ ، الرضا) و ( رحمتَ، أرحم ، رحمة ) و (قضيتَ ، قضاء) و (تعطي ، عطاء) في الأبيات الشعرية التالية :
” والبرُّ آيتُكَ التـــــــــــــــي لا تنمحي… مهما تجشَّم محْـــوها الخُصَماءُ “
وإذا غضبتَ فغضبة الحـــــــــق التي…لا سطــــــــوةٌ فيها ولا غَلْوَاءُ
وإذا رضيتَ فحسبهم منـــك الرضا… لا يعتريـــــك إذا رضيت جُفَاءُ
وإذا رحمـــــــتَ فأنت أرحمُ من يُرَى … وجميع أمرك رحمةٌ ووفاءُ
وإذا قَضَيْتَ فكلهــــــــــــــم ثقةٌ بهِ… بالحق فصلُكَ بينهـــــــم وقضاءُ “
ـــ التـــوارد :
لو تأملنا في قصيدة الشاعر ماهر الأمين، لوجدنا أبياتاً فيها قولا أو كلاما وألفاظاً قد حَذَتْ حَذوَ أبيات قصيدة الشاعر أحمد شوقي، وهذا ليس أمراً غريباً أو جديداً، فهي ظاهرة متواصلة ومتفاعلة بين معظم الشعراء القدامى … فمثلاً قول الشاعر كثير عزة :
” ﻭما ﺭﻭﻀﺔﹲ ﺒﺎﻟﺤﺯﻥِ ﻁﻴﺒﺔﹸ ﺍﻟﺜﺭﻯ … ﻴﻤﺞُ ﺍﻟﻨﺩﻯ ﺠﺜﺠﺎﺜﻬﺎ ﻭﻋﺭﺍﺭﻫﺎ “
فحذا حذوه الأعشى فقال :
” ﻭﻤﺎ ﺭﻭﻀﺔ ﻤﻥ ﺭﻴﺎﺽ ﺍﻟﺤﺯﻥ ﻤﻌﺸﺒﺔ …. ﺨﻀﺭﺍﺀ ﺠﺎﺩَ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻤﺴﺒﻝٌ ﻫﻁﻝُ “
وهذا لا يدخل في باب العيوب، إنما كان معمولا به بكثرة في القديم والحديث.
فلنقرأ بعض الأبيات التي حذا فيها ماهر الأمين حذو أحمد شوقي :
مثلا قول أحمد شوقي :
” وإذا غضبتَ فإنما هي غضبة … في الحق لا ضَغنٌ ولا بغضاء “
أخذه ماهر الأمين وعمل منه :
” وإذا غضبتَ فغضبة الحـــــــــق التي … لا سطــــــــوةٌ فيها ولا غَلْوَاءُ “
وقول آخر لشوقي :
” خير الوسائل من يقع منهم على …. سبب إليك فحسبي الزهراء “
أخذه ماهر الأمين :
” حسبي وقد بكت اليراعةُ أحمدا … أن أستزيد وحسبي الزهراءُ “
والحقيقة أن ماهر الأمين قد أجاد الحذو، وأجاد النسج حتى بدتْ الأبيات وكأنها توائم، ولكنه لم يغادر بصمته الخاصة أبداً.
ـــ تشاكل التركيــب :
من خلال نسج بعض الأبيات في قصيدة ماهر الأمين نجده قد ضمَّنها وصفاً لسِمات وصفات النبي محمد (ص)، وقد بدأت هذه الأبيات بالأداة الظرفية (إذا) والتي تفيد معنى الشرط، وقد تبعها فعلُ ماضٍ ثم أردفها بجملة الشرط، وإن مثل هذا التركيب لم ينسج جُزافا، أو لدواعٍ تأليفية، وتنسيق القافية، وإنما جاء مُكرّراً لغاية محددة وهي إعلام المتلقي وتعريفه بهذه السمات والمناقب والصفات الحميدة والراقية بواسطة هذا التشاكل، وأمامنا هذه الأبيات للتعرف على ذلك :
” فإذا نطقتَ فللحـــــــــــــروف مهابةٌ … وإذا خطبت فللكــــــلام علاءُ
وإذا غضبتَ فغضبة الحـــــــــق التي…لا سطــــــــوةٌ فيها ولا غَلْوَاءُ
وإذا رضيتَ فحسبهم منـــك الرضا… لا يعتريـــــك إذا رضيت جُفَاءُ
وإذا رحمـــــــتَ فأنت أرحمُ من يُرَى … وجميع أمرك رحمةٌ ووفاءُ
وإذا قَضَيْتَ فكلهــــــــــــــم ثقةٌ بهِ… بالحق فصلُكَ بينهـــــــم وقضاءُ
وإذا منعتَ الخـــــــيرَ أو أعطيتهُ… فالكـــــــــــــلُّ فيه قناعةٌ ورضاءُ “
وهذا من بليغ التركيب، حيث أن أهل البلاغة اهتموا بهذه الأداة (اذا) حين يأتى بعدها فعل ماض. وحتى أصحاب اللغة يقولون إن المعمول عليه في الجملة الشرطية هو جواب الشرط.
ــ تشاكل المعنــى :
إن مضمون أي نص شعري يعتبر هو البؤرة التي يتركّز فيها العنفوان الصوتي والموسيقي، مضافا إليه الصيغة النحوية لكل عبارة. فالمتلقي الذكي سيتعرف على تشاكل معنوي واضح من خلال نسج هذه الأبيات، حيث أن الشاعر ماهر الأمين حينما أراد إظهار وإبراز سمات وصفات سيد المرسلين جعل تشاكل المعنى مبني على قوام سياقي واضح، وبَيّن حينما جاء بالفعل الماضي بعد الأداة (اذا) . فعندما يقول :
” فإذا نطقتَ فللحـــــــــــــروف مهابةٌ … “
نجد أن الفعل في (نطقتَ) يدل على الماضي، وهكذا في بقية الأبيات الشعرية الأخرى أعلاه، مما يدل على ثبات وتجذر الصفة والسمة في شخص النبي الأكرم، و(التاء) تعود على النبي المصطفى كون الصفات تعود له لا لغيره. وهذا التشاكل في الموضوع والمعنى يتوارد في أكثر من بيت شعري في القصيدة، مما يدل على نيّة الشاعر في تأسيس هذا التوظيف لتعريف المتلقي بالصفات الرائعة والمهيبة التي تلازم شخص المصطفى.
ـــ المساواة في النسج :
اِستعمل الشاعر ماهر الأمين المساواة في نسجه مع نسج أحمد شوقي في كثير من الأبيات، فمثلا عندما يقول شوقي :
” ما جئتُ بابكَ مادحاً بل داعياً … ومن المديحِ تضرعٌ ودعاء “
فيلحقه الشاعر ماهر الأمين بنسج بديع :
” يا مـن يطيب الذاكرون بذكرهِ … لي فـي مديحك حاجةٌ ورجاءُ “
والشاعر أحمد شوقي هو الأحق في المعنى لأنه هو صاحب الابتداع والأمين اتَّبعَه، فشوقي سابق والأمين لاحق، وهذا ما يسميه العرب بمساواة الآخذ منه للمأخوذ عنه.
ـــ نشاط الصورة الشعريـة :
نسجَ شوقي صورة تحطيم أصنام الشرك ببيت شعري واحد فقط، فقال :
” نسفوا بناء الشرك فهو خرائبٌ …. واستأصلوا الأصنامَ فهي هباءُ “
وقد أعجبني ماهر الأمين حين استطرد في وصف هذه الصورة ببيتين رائعين :
” ما كانتْ الأصنامُ إلا مَظهراً… للشركِ يسعــى حولَها السفهاءُ
فَغدَتْ هبــاءً لا يُردَّدُ ذكرُها … فالله أكبر والعقـــــــــــــولُ ذُكاءُ “
فهو قد زاد في الصورة حينما وصف تغير العقول من بعد الشرك والجهل والجهالة فأصبحت (ذكاءُ)، وقد استخدم هذه المفردة بذكائه المعهود والتي تناسب صياغة هذه الصورة المركبة الهائلة الجمال والإبداع، وهذا يدلل على قوة ونشاط (الملَكَة) التصويرية الشعرية التي يمتلكها ماهر الأمين وإمكانيتها في صنع الصورة.
ـــ توظيف الصورة الشعرية :
يتميز ماهر الأمين بقدرته الفائقة في رصف العبارات وتوظيف الصورة الشعرية للوصول إلى الهدف المنشود، فحتى مسك الختام لقصيدة شوقي والتي توَّجها بالسيدة (الزهراء ) ــ رضي الله عنها وأرضاها ــ فقال :
” خير الوسائل من يقع منهم على … سببٍ إليكَ فحسبي الزهراء “
فلا نستغرب إن أفردنا عنواناً خاصّاً لهذا التصوير، عندما جعل الأمين مسك ختامه بالسيدة (الزهراء) أيضاً، فطرَّزها بصورة شعرية زاهية راسخة لا تقل شأنا عن خاتمة شوقي، بل ونافستها إن لم تكن أبلغ عندما صرح بالإسمين الكريمين : (أحمدا ، الزهراء) في بيت واحد، إضافة إلى هذا الوجد الراقي البهي عندما يقول : (حسبي وقد بكتْ اليراعةُ أحمدا) …. وكما في البيت التالي وهو مسك الختام في القصيدة البهية :
” حسبي وقد بكتْ اليراعةُ أحمدا … أن أستزيد وحسبي الزهراءُ “
لله دركَ يا ماهر …
أقسمُ لقد أجدتَ وأبدعتَ يا ماهر الأمين.
وأي إبداع ؟؟؟
إنه على ( نهج شوقي ) … ويكفيك فخراً ما نسجتَ لأجله، وهل من بعد مدح النبي محمد مدح ؟؟؟
أم هل من بعد الختام بذكر الزهراء ختام ؟؟؟ وهي روح النبي وأم أبيها.
جعل الله يراعكَ هذا يا ماهر الأمين في ميزان حسناتك وخالص أعمالك.
ــ القدرة في المجاراة :
في نظرة فاحصة لأبيات أحمد شوقي وهو يصور رحلة الإسراء والمعراج بخمسة أبيات شعرية غاية في الروعة والبهاء :
” يا أيها المُسرى به شرفاً إلى … ما لا تنال الشمس والجوزاءُ
يتساءلون وأنت أطهرُ هيكل … بالروحِ أم بالهيكلِ الإسراءُ
بهما سموت مطهرين كلاهما …. نور وريحانية وبهاء
فضل عليك لذي الجلال ومنة … والله يفعل ما يرى ويشاء
تغشى الغيوب من العوالم كلما … طويت سماء قلدتك سماءُ “
وبعد هذا السناء والبهاء في النسج لشوقي ، نتفحص نسج ماهر الأمين في تصويره لهذه الرحلة الكونية الإعجازية :
” يا أيها المُسْــــــــرَى به قد حَفَّهُ… فـي مَعْرِضِ الشَّرف المُبينِ سخاءُ
ليلا إلـــــى حيث المشيئة قدَّرتْ… ما لم ينلْ مِــــــــــن قَبْلِــكَ الشُّرفاءُ
صلَّيتَ بالصَّحبِ الكـــرام حنيفُهم … وهُمُ وقد فرحــــــوا بك الحُنفاءُ
ثم ارتقيت إلى الطِّباقِ وقد شذت … بهــــــــــواكَ سبعٌ حَازهُنَّ سناءُ
ثم ارتقيت فــــــــــلا مَرَدَّ لفضلهِ … حيث الدُّنـــــــوّ وحيث جلّ لقاءُ
يوحي إليكَ الله فـــــــــــي عليائهِ …. ويَفِيضُ في كَنَفِ الجليلِ عطاءُ “
لو تأمَّلَ المتلقي هذه الأبيات الشعرية الستة، لشعر بوجدانية جارفة قد ميزَتْ هذه الصورة الشعرية البديعة، وكيف ابتدأ الأمين بيته الشعري بنفس ابتداء شوقي بالنداء، إلا إنه قد أشار إلى زوايا أخرى وبعناية دقيقة، وأدخل بَصمَتَـهُ وأسلوبه التعبوي، فقد جارى ووافق شوقي في نسجه لهذه المعجزة الكونية، وزاد عليها في وصف صلاة النبي الأكرم بجمع الأنبياء ودنوه من عرش الله تعالى ولحظة الإيحاء له في ذلك اللقاء الإعجازي، وهذا ما يميز بصمة وأسلوب ماهر الأمين، فقابليته على مجاراة الكبار ليس من باب التشابه والتقليد، وإنما قدرته على حصد صوراً بلاغية متنوعة وبنسجٍ متنوع الخيوط وإن كان بنفس (النَول).
ـــ بعد هذا الإيجاز النقدي بحق قصيدة (نهج شوقي)، وبحق هذا النص الشعري الباذخ الثري للشاعر الأمين، لا بد أن نقف وقفة تفحّص وتأمل حقيقي لـ ( نَولهِ ونسجهِ )، فكلاهما قد تلازما حتى يُحسنا نسج قُماشة تعمَّد ناسجها الأمين أن يقرنها بقُماشة شوقي، وليس هذا بالعمل الهين، إنما هو عمل جسور مُحاط بالثقة التامة، فقد أجاد أيّما إجادة وليس ذلك على ماهر الأمين بالغريب، فهو لا يكتب إلا حين تقدح ذاتهُ، ولا يصمت إلا حين ينتهي القَـدْح، أما المداد فهو ملء كفيه يحركه كيفما شاء.
ـــ الشاعر ماهر الأمين لم يجعل من حذوهِ على نهج شوقي مُكبَّلاً ومُقيَّداً بذات الصور الشعرية، وإنما استطاع بذكائه المعروف ونضوجه الفكري والأدبي أن يضع بصمته الواضحة، وبأسلوبه الخاص مع توافر الحرية في إنشاء الصور الشعرية المطلوبة، فصفات الرسول الأكرم هي ذاتها، لكن ماهر الأمين أعطى لملكته التأليفية الحرية الكاملة في اختيار الصور، وشكل نسج العبارات، فما احتاج إلى إيجاز أوجزَ فيه، وما احتاج إلى استطراد استطردَ فيه، وهنا تكمن مساحة الإبداع والثقة بالنفس.
ـــ مازلتُ أتلمسُ من الشاعر ماهر الأمين مزايا الكاتب والشاعر الحاذق والتلميذ الدؤوب ذو الأدب العالي والفطرة السليمة. وعندما يلاصق الصدق كلمة الشاعر فإنه بذلك يوجّه دفته إلى الإبحار الصحيح، فلا يحتاج إلى مداراة خواطر أو دجل أو إنحياز، وهذه الصفات هي التي جعلت من ماهر الأمين شاعراً يتصف بالصدق والاتزان والالتزام.
وكم نحتاج مثل هكذا شاعر في زمنٍ ابتلع معظم الأقلام الصادقة الملتزمة ؟؟؟ والذي بقي منهم ما زال يعيش بين فكَّي ذئب.
تقديري الكبير ….
………………………………………………………………
الناقد العراقي /كريم القاسم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القصيدة:
# نهج شوقي( وُلِدَ الهُدَى):
سُرّت عيــــــــــــــــــونك إذ تقطَّر ماءُ …وانزاح همـك أن أتاك رواءُ
وجرى هُيَامُك َهامعا فـــــــــــــي إثرها … هتّانةٌ لـــــم تشتفي ورجاءُ
لله أمــــــــــــــــــــــرك ما تأنّقَ مادحٌ… ومن المديــــحِ تصبُّرٌ وعزاءُ
وشكاةُ همك فــــــــــي رقادك والسُّرى… ولطالما ضاقت بها الأحشاءُ
تستام ممـــــــــــــــــــــا يستهام بمثلها …وتقــــول أنْ تلك الحياة شقاءُ
أوَ مـــا تكشّـــــف دون دمعك أنّها …ذكــــرى الحبيب فها هي الأنداءُ
أوّاهُُ شوقــــــــــــــــــي والمديح وقوله… (ولد الهدى فالكائنات ضياءُ)
فعســـــــــــى اليراعة أن تقلد أختها… فالكل فـــي هذا الرُّضاب سواءُ
مزدانةٌ تلك الحـــــــــروف وكم نأت … عنك القصيد وكم أصابك داءُ
هــــــــي ذي صلاتك هام وجدك بعدها…وزكت حـــروفك أيها البكّاءُ
صلــــــــــى عليك الله يا خير الورى …ما طاب في هذا الوجود دعاءُ
حُزْتَ الشمائل والمكـــــــــــــارم كلها… فالحــــرف فيك تهيبٌ وحياءُ
والحسنُ فيك جـــــــــــــلاؤه وجلالُهُ…أنت المليــــحُ ووجهك الوضاءُ
والبرُّ آيتُكَ التـــــــــــــــي لا تنمحي… مهما تجشَّم محْـــوها الخُصَماءُ
وجوامعُ الكَلِمِ التـــــــــــــــي أوتيتها… يزهـو بها مَنْ بالمحجّةِ جاءوا
فإذا نطقتَ فللحـــــــــــــروف مهابةٌ … وإذا خطبت فللكــــــلام علاءُ
وإذا غضبتَ فغضبة الحـــــــــق التي…لا سطــــــــوةٌ فيها ولا غَلْوَاءُ
وإذا رضيتَ فحسبهم منـــك الرضا… لا يعتريـــــك إذا رضيت جُفَاءُ
وإذا رحمـــــــتَ فأنت أرحمُ من يُرَى … وجميع أمرك رحمةٌ ووفاءُ
وإذا قَضَيْتَ فكلهــــــــــــــم ثقةٌ بهِ… بالحق فصلُكَ بينهـــــــم وقضاءُ
وإذا منعتََ الخـــــــيرَ أو أعطيتهُ… فالكـــــــــــــلُ فيه قناعةٌ ورضاءُ
يا من بجــــــودكَ يستزيدكَ عائلٌ … إذ لايخيب إذا سخـــــوتَ رجاءُ
إذ لايُرَدُّ مِــــــــــنَ السّماحةِ سائلٌ… تُعطِـــــي وكَفُّ المرسلينَ عطاءٌ
يأيها الأُمِــــــــــــــــيَُ حسبُك أنّها … من معجزاتك لو يَعـِـي الجهلاءُ
لولاهُ لارتابـــــــوا وجادل مُبْطِلٌ… والمبطلونّ لِمـَــــــنْ هَـدَى أعداءُ
الصّادقُ المصــْــــدوقُ أنت وإنّما… تَعْمَى القلــــــوبُ فما لذاك دواءُ
والله يهـــــــــدي من يشاء بفضله….وهـــــــــــو المُنَزَّهُ ما له شركاءُ
يوحــِــــــــــــي إليك اللهُ من آياتهِ… فيلوح في داجــــيْ الظّلامِ ضياءُ
ويجيئك الملك الــكــــــريم مُبَلِّغا …والآيُ تتْــــــــــرى رحمةٌ وشفاءُ
أهل الفصاحة والبـلاغة أُعْجِزُوا… وذوو البيـــــــــــــانِ تأمُّلٌ وثناءُ
الرحمةُ المهــــــداةُ أنت رسولنا … والمُجْتَبَـــــــــــــى والآية ُالغرَّاءُ
با أيها المُسْــــــــرَى به قد حَفَّهُ… فـي مَعْرِضِ الشَّرف المُبينِ سخاءُ
ليلا إلـــــى حيث المشيئة قدَّرتْ.. ما لم ينلْ مِــــــــــن قَبْلِكَ الشُّرفاءُ
صلَّيتَ بالصَّحبِ الكـــرام حنيفُهم …وهُمُ وقد فرحــــــوا بك الحُنفاءُ
ثم ارتقيت إلى الطِّباقِ وقد شذت…بهـــــــــــواكَ سبعٌ حَازهُنَّ سناءُ
ثم ارتقيت فــــــــــلا مَرَدَّ لفضلهِ… حيث الدُّنـــــــوّ وحيث جلّ لقاءُ
يوحي إليكَ الله فـــــــــــي عليائهِ…. ويَفِيْضُ في كَنَفِ الجليلِ عطاءُ
أولاك ما لـــــم يُوْلِ قبلك مُرْسَلا… نعماءُ لاحت بعـــــــــدها نعماءُ
دِيْــنُ المحبةِ والسَّمــاحةِ والهدى.. هو دعـــــــــــوةٌ قُدْسيَّةٌ عَصْماءُ
العدلُ مأمــــــــــورٌ بهِ ومُرَحَّبٌ…والنّاسُ فـــــــي حقِّ الحياةِ سواءُ
ودمـــــاؤُهم مَحْفُوْظةٌ ومَصَوْنَةٌ… ما حُرِّمَتْ بالحـــــــــقِّ فيهِ دماءُ
هو دعـــوةُ التَّوحيدِ خالصة لهم… لـــــو أنصـفَ الحُكـماءُ والعُقَلاءُ
أُسْدُ الشَّرَى حول الرسول رِجَالُهُ…لا يستهيــــــــــنُ ببأسهمُ نُظَرَاءُ
يغزون ضربا بالسيوف عدوهم… بالحق لا بغــــــــيٌ ولا استعلاءُ
حتى إذا حميَ الوطيسُ فما لهم … …غير الرسولِ مِـَن العدوِّ وِقَاءُ
ما كانت الأصنـــــامُ إلا مظهرا… للشرك يسعــــــى حولها السفهاءُ
فغدت هبــــــــاءً لا يردَّدُ ذكرُها…فالله أكبر والعقــــــــــــــولُ ذُكاءُ
يا مـــن يطيب الذاكرون بذكرهِ… لي فــــــي مديحك حاجةٌ ورجاءُ
عفو الـــــكريم وأن أنال شفاعةً…ما قــــــــــد ينالُ بمدحك السعداءُ
حسبي وقد بكت اليراعةُ أحمـدا … أن أستزيد وحسبـــــيَ الزهراءُ
…ماهر الأمين