ماذا يعني أن تكون فلسطينيا – حسن العاصي

0
1186

ربما لا أحد منكم يعلم ماذا يعني أن تكون فلسطينيا، لذلك سوف نحاول أن نساعدكم في التقرب من هذا الكائن.

أن تكون فلسطينياً يعني أن تعشق وطناً تعرف اسمه ولم تره، تكبر وأنت لا تعلم أين سوف تكون غداً، لأنك ممنوع من الاستقرار ومن التفكير في المستقبل، وعليك أن تحارب نيابة عن أمة الضاد، وباسم الشعوب العربية،  لأنك القومي العربي الأول، وأن تحارب نيابة عن جميع المسلمين أينما تواجدوا، فأنت حامي الأقصى الشريف وهو تكليف خصك به رب العزة، فم يجب أن تقاتل نيابة عن جمع الأحرار والشرفاء في العالم،  فأنت الأخ والرفيق والمناضل الأممي الأول ضد الامبريالية العالمية وضد الاستعمار وضد العولمة، ثم تجدهم يشيدون بك في الخطابات والمهرجات والمؤتمرات والقاعات المغلقة، ويكيلون لك المديح وينظمون قوافي الشعر في وصفك، لكنك يا حسرتي يا حافي القدمين أنت الضحية الأولى لكل الأزمات.

أن تكون فلسطينياً يعني أن ترضع من ثدي أمك مع حليبها  الإحساس بالقهر والظلم وكذلك ترضع التحدي والرجولة والإصرار، وترضع مفردات السياسة  ومصطلحات الفلسفة وأسماء الأسلحة، وحين تصبح مراهقاً عليك أن تقرأ الشعر وتحفظه ثم تكتب القصائد وتكون ملماً بأنواع وبحور الشعر وأسماء كبار الشعراء، وحين تصبح شاباً تُعتقل  ليس مهماً أين، قد تعتقل عند أعدائك الطبيعيين وقد تعتقل عند الأشقاء العرب، وكذلك ليس مهماً التهمة فهي موجودة دوماً بانتظارك لأنك فلسطيني، فإن كنت من الناس المحظوظين ولم تستشهد ولم تقتل ولم تغتل، فإنك تتزوج لتنجب أبناء  يكررون المقرر المعروف،  وإن لم تفعل ذلك حينها تكون أنت إما عميلا أو مجنونا.

أن تكون فلسطينيا، هذا ينبغي أنك تحفظ أسماء الشهداء منذ ثورة فلسطين الكبرى في العام 1936 لغاية الآن، وأن تعلم أعداد المعتقلين الفلسطينيين وأماكن احتجازهم، وأن تحفظ صور وجوه أمهاتهم، وتاريخ اعتقالهم ومدة أحكامهم، ويجب عليك أن تعلم أماكن وأسماء السجون والمعتقلات في العالم، وتحفظ تاريخ الثورات في العالم وأسماء قادتها وأبرز منجزاتها، بداية من ثورة سبارتاكوس.

أن تكون فلسطينيا، عليك تسويق بضاعة يعتبرها الآخرون بضاعة كاسدة اسمها الكرامة، هذه السلعة التي اخفضت أسهمها في أسواق العرب، وقل تداولها، منذ أن ابتدعنا مصطلحات جديدة للواقعية ووضعناها في قواميس الأخلاق.

عندما تكون فلسطينيا سوف تصاب بمرض اسمه الحزن يصاحبك طوال حياتك، ويلتصق أنين الحجارة بصوتك، ويفترسك الخوف من المطارات العربية، وتربكك الموانئ، لأن أيام عمرك تتساقط على هذه الأرصفة محطة تلو المحطة تظل غريباً.

 عندما تكون فلسطينيا، سوف تتمتع بذاكرة قوية بالفطرة والاكتساب، فأنت تتذكر عدد حبات رمال البحر على شواطئ فلسطين، وتتذكر صوت كل مأذنة وتعلم موقع كل جامع من صوت الأذان، وسوف تتذكر ضحكة كل طفل في مدينتك، ستتذكر أماكن أفران خبز الصاج، عليك أن تظل متذكراً أن لا عصفور لك يرابط عند نافذتك، وأن تظل تتذكر أقنعة الجلادين، وطعم الوجع، وجدران المدينة، وتذكر لون الفجر، ورائحة الموت الممتزج بالبارود.

لأنك فلسطيني، ستدرك مع الوقت أهمية الأرقام والأعداد في حياتك، سيتحول اسمك إلى رقم في جداول وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة، ويتحول تاريخك كله إلى أرقام وتواريخ بدءًا من العهد الإغريقي مروراً بالانتداب البريطاني لغاية اللحظة، كل شيء في حياتك يتحول إلى أرقام ، موقع بيت جدك في فلسطين الذي يسكنه مهاجر يهودي من روسيا، كم يبلغ بالأرقام عدد أفراد الأسرة المعتقلين والمنفيين والمفقودين والمقتولين، عدد الأيام التي أمضيتها في المعتقلات وفي المشافي وأمام أبواب أجهزة الأمن، عدد السنين التي عشتها في المخيم، رقم لجوئك في المنافي البعيدة، عدد المجازر والمذابح التي ارتكبها الآخرون بحق أهلك وشعبك، عدد وتواريخ المناسبات الوطنية، عدد هزائم العرب، سيلهج لسانك بالشكر لمن اخترع الأرقام، إذ لولا وجود الأرقام لما كنت أصلا موجوداً.

عندما تكون فلسطينيا، ستعيش حالة من الحنين والشوق الدائم، في صحوتك ويقظتك، في نومك وأحلامك، في عملك وفي إجازتك، في وعيك وفي غيبوبتك، في مرضك وفي صحتك، في شدتك وأزماتك وفي سعتك وفرجك، في ضعفك وقوتك، غناك وفقرك، إلا وتكون فسطين موجودة، لا يمكنك الهرب منها حتى لو أردت، فلسطين تعيش بك وأنت تعيش بها، فلسطين لا تفارقك لحظة، فلسطين ماكنت عليه، وما صارت عليه، وما ستصبح عليه  مستقبلاً.

ثم ماذا يعني أن تكون فلسطينياً بعد؟

أن يكون لك وطناً وبيتا، بيارة وبستان جميل، مكان عمل، عائلة وأقارب وأصدقاء وجيران،  ثم فجأة يأتيك أحد ما، لسبب ما، بمساعدة ودعم ما، وخيانة وتآمر ما، ليقتل نصف عائلتك،  ويطرد الآخرين خارج وطنهم، وإن ظل أحد ما على قيد الحياة يصبح ضيفاً ثقيل الظل في أرضه.

أن تكون فلسطينياً هذا يعني أن تسير في شارع ما، في عاصمة ما، في دولة ما، وأنت لا تعلم هل ستعود إلى بيتك أم لا.

أن تتواجد لسبب ما، في مطار ما، في دولة ما، والجميع يغادر قاعة الوصول ويخرج إلا أنت، ولسبب ما أنت لا تفهمه، يتم اعتقالك أياما أو أسابيع أو شهورا أو سنوات دون أن يجرؤ أحد على السؤال عنك، وقد تقتل داخل السجون دون أن يرتعش جفن السجان، فأنت فلسطيني، وفي أفضل الحالات يحتجزونك في غرفة قذرة في المطار ويقومون بتسفيرك في أقرب رحلة عائداً إلى حيث قدمت دون توضيح وذكر الأسباب.

أن تكون فلسطينياً هذا يعني أن يتم اتهامك في قتل أي إنسان قد يموت ميتة طبيعية، في بيت ما في مدينة ما، في بلد ما، من غير سابق معرفة بينكما، ودون أي سبب.

فإن حصل تفجير في السويد مثلاً، تقوم الأطراف المسؤولة بإغلاق معابر غزة، دون أن تفهم السبب، وإن انزلق قطار في الهند يتم قطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني من الدول المانحة دون توضيح الأسباب، وإن غرقت سفينة في بحر الشمال ربما، يصدر مجلس الأمن قراراً يدين العنف الفلسطيني، بالرغم من أنك لم تكن قدمك قد وطئت تلك البلاد يوماً.

إن قام رجل أبيض بقتل رجل أسود في الولايات المتحدة الأمريكية فأنت المسؤول لأنك فلسطيني، وإن قامت سيارة شاحنة بدهس حظيرة دجاج في هولاندا فأنت المسؤول، وإن ثار بركان في آيسلاندا فأنت المسؤول، وإن اختل نظام التبريد في المكوك الفضائي فأنت المسؤول، طبعاً فأنت فلسطيني.

أن تكون فلسطينياً هذا يعني أن يكون لك حكومتان ورئيسان، والجميع يمتهن كرامتك، ولا يعترف بمواطنتك، والآخرين يتربصون بك ويكيدون كي تقع.

أن تكون فلسطينياً، يعني أنك إن نجحت أو لم تنجح في دراستك، حققت أعلى مراتب التحصيل العلمي، لن تحصل على وظيفة محترمة، وإن حصلت لن تعامل كأقرانك، بدون وجه حق، وسوف تظل تعاني من التمييز الذي يعاملوك به الأخرين فقط لأنك فلسطيني.

وحين تحصل ثورة في مكان ما، في بلد ما، يتهمونك أنت باعتبارك من قام بالتحريض وهيّج فئات الشعب على القيادة، وبأنك أجندة خارجية وعميل للمعسكر المعادي، وتمنع من دخول بلد ما، وتصدر بحقك أحكام بالسجن في بلد ما دون أن تفهم السبب.

حين تنفجر كنيسة ما مثلاً، أو مسجد ما، تعتقل أنت لأنك فلسطيني، ويصبوا جام حقدهم فوق رأسك، ورأس أجدادك، ليتضح فيما بعد أن من فعل هذا، وزير ما، في بلد ما، أو حزبا ما في دولة ما، ويكتشفون أن لا علاقة لك بالأمر، لكنهم لا يعترفون ولا يعتذرون فأنت فلسطيني.

أن تكون فلسطينياً، هذا يعني أن تدخل دولة ما، في احتكاك وشقاق ما، مع دولة عربية أخرى ما، فيتم فرض ارتداء الزي العسكري عليك، وترسل في طائرات حربية رغماً عن أنف أهلك إلى جهة ما، لتدافع عن زعيم ما، رغم أن بلادك أحوج لهذا القتال.

يعني أن ترتدي أي زي فلسطيني، أو تضع الكوفية الفلسطينية، أو أن تحمل علم فلسطين في عنقك أو على هيئة حمالة مفاتيح، أو أن تستمع إلى أغاني الثورة الفلسطينية، أو الأغاني الشعبية حتى، وأنت في عملك، أو في دراستك، أو حتى في الشارع العام، تحصل على إنذار بالفصل من العمل أو المدرسة بتهمة إرهابي.

يعني أن تكون موضع مزايدات من قبل كافة المثقفين العرب، والكتاب، والشعراء، والفنانين، والمطربين، ورجال الأعمال، الذين يتزاحمون معك حول وطنيتك، وحبك لفلسطين، من أجل حفنة من الدولارات، ومن أجل تسويق كتاب أو عمل فني ما، أغنية أو فيلم حول فلسطين.

أن تكون فلسطينياً، هذا يعني أن تكون مادةً مهمة ورئيسية  في خطابات الزعماء في العالم العربي، لا غنى عنك وعن قضيتك في المهرجانات والاحتفالات العربية، يستخدمون اسمك واسم  بلدك، ويستفيضون في شرح كم يكنون لك من الحب والاحترام والتقدير لشخصك ولبلدك ولعدالة قضيتك، وكم يساهمون في مد يد العون لفلسطين مادياً وسياسياً ومعنوياً، فقط من أجل إظهار بطولاتهم ومواقفهم النبيلة وفروسيتهم أمام شعوبهم المسكينة، بينما تجد سجونهم ممتلئة بالمناضلين الفلسطينيين، وملفات أجهزتهم الأمنية تمتلأ بأسماء شرفاء ومثقفين فلسطينيين مطلوبين بتهم متعددة أهمها حب فلسطين.

يعني أن يأتي الصومالي أو الهندي أو الباكستاني أو التايلاندي أو المجري إلى أي بلد عربي، ويحصل على إقامته خلال ثلاث أيام، وأنت تنتظر ستة عشر شهرا بلا سبب، فقط لأنك فلسطيني، أن تدخل الراقصات والعاهرات والجواسيس من المطارات العربية، وأنت يتم احتجازك والتحقيق معك بدون وجه حق، فقط لأنك فلسطيني.

أن تكون فلسطينياً، يعني  إن تجرأت في الحديث عن حق العودة، يتهمونك بالجنون، تتحدث عن تحرير فلسطين، يتهمونك بالهلوسة والتحريض على الأمن والسلم الاجتماعي العالمي، وبأنك أصبحت خطرا على التماسك الاجتماعي لبلد ما، ومن ثم لا يستطيع أحداً إيجادك، ولا يتجرأ أحد ما أن يسأل عنك جهة ما، هذا لأن جهازا ما قرر أن مكانك هو أحد الأقبية المنتشرة في طول البلاد وعرضها، وإن تحدثت عن حقك في الدفاع عن أرضك بقوة السلاح، يقومون بإطلاق النار عليك فوراً، ثم في اليوم الثاني يقبضون  ثمن دمك، وفي اليوم الثالث ينتقمون من أهلك وعشيرتك وأصحابك وجيرانك.

أن تكون فلسطينياً، هذا يعني تجد خبراً ما، أو مقالة ما في الصفحة الأولى لصحيفة ما، يتناول وضع السلفادور مثلاً، أو يتناول الأضرار البيئية الناجمة عن التطور الصناعي، إلا وتجد اسم فلسطين في منتصف الخبر أو المقال لسبب تجهله.

أن تكون مبدعا، خلاقاً، مخترعاً، متميزاً في مجالك، الجميع يتحدث عن قدراتك، وتكتب الصحف عن إنجازاتك في ميدان ما مثلاً، وتتلقى أرقى الشهادات وأرفع الأوسمة، لكن يظل الجميع ينظرون لك بعين الريبة والشك حيناً، بعين الخوف والقلق حيناً آخر، دون سبب ما، فقط لأنك فلسطيني.

في جامعة ما، في بلد عربي ما، تكون أنت من المتفوقين في دراستك، ويستعين بمعلوماتك إبراهيم وأحمد وخليل، وتساعد نيفين ونسرين، وفي نهاية العام هم ينجحون وأنت لا تجد اسمك بينهم، لا تحمل نفسك مشقة السؤال، لأنه تعرف أنك فلسطيني.

أن تكون فلسطينياً، هذا يعني أن تحمل في جيبك خمسين ألف ورقة وختم وطوابع، تقضي أسابيع وأحيانا شهورا كي تنجز معاملة فقط كي تسافر، وتدفع من أجلها آخر قرش في جيوبك، وفجأة تجد نفسك ممنوعاً من المغادرة، دون توضيح الأسباب.

أن تكون كرتاً ومجرد ورقة في حسابات السياسات الداخلية والخارجية، لبعض الدول العربية الشقيقة والبلدان الإقليمية، والجميع يريد استخدام اسمك وقضيتك من أجل تحقيق مكاسب ما، في قضية ما، طبعا على حساب مصالحك، ودوماً أنت تكون الطرف الذي يدفع الثمن ويسدد فواتير الآخرين، فقط لأنك فلسطيني.

أنت فلسطيني، هذا يعني أن تجد خمسين محطة تلفزيونية، وسبعين وكالة إخبارية، وعشرات الصحف، ومئات الندوات سنويا، وآلاف المؤتمرات، ومئات المؤلفات، جميعها تناقش أسباب هزيمة 1948 وقيام دولة إسرائيل، ولم يتوصلوا قط إلى رؤية تساعدك وتساعد وطنك على استعادة ولو جزء من أرضكم التي انتهكت، على مرأى ومسمع من شرفاء الأمة التي تحملون شرف الانتماء إليها، وانتهكت حقوق أصحابها على مر ما يقارب المائة عام  والأشقاء يتفرجون، أن تصدر الأمم المتحدة ومجلس الأمن مئات القرارات التي تتعلق بوطنك وقضيتك، ولم تستطع ما تقارب من مئتين دولة من تحقيق العدالة التي حرمتم منها.

أن تكون فلسطينياً، هذا يعني أن تصبح كل الجهات رماحاً أمام عينيك، أن تتدلى المشانق من أجل عنقك في معظم العواصم، أن ينمو الصقيع على شرفات المنافي التي تتقاذفك، أن تعود في يوم ما محمولاً فوق الأكف إلى عشب أمك، أن ترى أباك يموت في مكان ما، فوق فراش بارد، وكان مايزال يتحدث عن كروم العنب والزيتون في فلسطين، وعن أمله في العودة إليها يوماً ما.

أمامك وحدك ينهار كل شيء، المدن والقرى، تنهار المقابر وابتسامات الصغار.

وحدك أيها الفلسطيني يأمل أن ينبت الحطب زهراً فكيف يموت قلبك.

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here