“بكارة الأسماء”، “أحمر على شفاه البرزخ”، “قمح القواميس”، “مفترق الخصام”.. هذه عناوين لبعض القصائد التي أتحفنا بها الشاعر أحمد حضراوي.
عناوين اختارها بكل بدقة وعناية.. فالعنوان ليس فقط عتبة للنص هنا كما يقال بل هو بوابة كبيرة للدخول إليه. وليس جديدا أن نقول أن قصائد الشاعر تتميز بالمجاز الذي قد يستعصي على القارئ البسيط، بل وقد يضطر الضليع في اللغة العربية إلى قراءة القصيدة الواحدة لمرات متتالية،حتى يستطيع أن ينفذ إلى المعنى الذي يقصده الشاعر أحمد حضراوي أو بعض منه.. فشاعرنا يمنح عنوان قصيدته نفس اللون المجازي الذي يطغى على نصه الشعري.
ويتساءل المتلقي: “هل للأسماء بكارة؟” و”هل للبرزخ شفاه؟” و”هل للقواميس قمح؟” و”هل للخصام مفترق؟”.. لكن بعد القراءة المتأنية للقصيدة واستدراك معناها، لا يملك المتلقي إلا أن يرفع القبعة للشاعر الذي أتقن اختيار العنوان، وأتى بالجيد من الكلام والصور شعرية، من خلال نسق لا مثيل له.
أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ، هو علاقة العنوان: “بكارة الأسماء” بموضوع القصيدة، فما هي دلالتهما، وما أهمية هذه القصيدة تحديدا بالنسبة للشاعر؟
للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نُبحر في معاني القصيدة محاولين فك رموز العبارات والمفردات والتلميحات التي استعملها الشاعر أحمد حضراوي في نصه الشعري.
فقصيدة “بكارة الأسماء” كجل قصائد الشاعر والروائي أحمد حضراوي، تعتمد على فن الإيحاء والتلميح برموزٍ منبثقة من صور حِسِّيَّة تترك للقارئ مجالا للتصور والخيال وإكمال دلالات التصوير كما توحي بها مفردات القصيدة. ومما يميز ويمنح القصيدة طابعا خاصا وفريدا من نوعه، ذلك التلميح بطريقة بارعة لرسم مشهد يشبه المشهد السينمائي دون التعبير عنه بصراحة. فالشاعر يكتفي بذكر طرف من المشهد تاركا للمتلقي حرية التعرف على خبايا ما وراء الكلمات والسطور. وهذا ما يميز الفن الأدبي الذي يعتمد على التلميح والتصوير، خلافا للفنون الأدبية التي تعتمد على التصريح أن تغرق في الرمزية المطلقة، كقول الشاعر نزار قباني:
إني خيرتك فاختاري
ما بين الموت على صدري
أو بين دفاتر أشعاري
إختاري الحب أو اللاحب
فجبن ألا تختاري
لا توجد منطقة وسطى
ما بين الجنة والنار
هنا يعبر الشاعر نزار قباني بصراحة عن مبتغاه. أما شاعرنا المبدع أحمد حضراوي، فاختار فن التلميح بدل التصريح.. فهو يبوح لنا بحب بطل قصيدته ووصفه محبوبته في عنوان هذه القصيدة بــ..”بكارة الأسماء”، أي أنها ذلك الشيء الثمين الذي يحافظ عليه ولا يرغب بفقدانه.
يقول شاعرنا في بداية القصيدة:
الماء ينضح فوق ثوب ردائي
ليزيل عنه بكارة الأسماءِ
ويشد في مرج الطريق غواية
آبت إليّ بقضْمة الأهواءِ
في كل كأس العاشقين بقيّة
سُكبتْ لتَصنع آية الشعراءِ!
ومعنى “بكارة الأسماء” في موضوع القصيدة، يختلف عن معناه في عنوانها. فالمقصود بها في لب القصيدة أن بطل قصيدة الشاعر يغسل قلبه من أسماء كل النساء اللواتي عرفهن قبل التعرف على حبيبته، وهي آخر كأس عشقه الذي يلهمه ويوحي إليه بكتابة قصائده.
سبلي تطأطئ في عيونك خلسة
ما قيل فيها أولَ الإنشاءِ
العابرون تجردوا وتأزروا
وحكاية التفاح دارُ بقاء
غصن الجمال اهتز حين رأيته
في غنجه يرقى لغير سماء
العارفون بظله وسكونه
العابثون بلطمة هوجاءِ
الباعثون مع التراب دماءهم
لغةً لموعد سورة الإسراءِ
من جمالية الحب والعشق عند شاعرنا وعند كل رجل شرقي، ذلك الغنج والحياء. وهنا يصف لنا الشاعر مشهدا رومانسيا جميلا بين حبيبين بدأ لقاؤهما بنظرة بطل القصيدة إلى عيني حبيبته خلسة، وانتهى المشهد كما تنتهي المشاهد الرومانسية بين العشاق.
يشبّه الشاعر حالة بطل القصيدة مع حبيبته، وكأنهما عاشقين في أرض الإسراء والمعراج، قبل احتلالها وربما بعد انقشاع ظلام الاحتلال عنها. وهنا نلمس عشق الشاعر لفلسطين، وأن الشاعر اختار هذا المكان المقدس ليكون مسرحا لكلامه المعسول.
كما قد تبدو هذه القصيدة رومانسية غزلية فقط، لكن الخبير بعلم التصوف، يستطيع اكتشاف ذلك النص الصوفي المتواري وراء السطور، كاستعمال الشاعر للعبارات التالية: سورة الإسراء”، “الماء ينضج فوق ثوب ردائي”، “دار البقاء”، “نوازل الأعذار”..
كما أن رحلة بطل القصيدة تشبه رحلة الصوفي الذي يصل إلى غايته بعد كفاح مع ذاته رغم اختلاف الدافع والغاية، فيمزج الشاعر الحدس الصوفي بالإيحاء والتلميح الشعري، ويُشعر القارئ بأن الإنسان قادر على الوصول إلى ما لا نهاية، وأنه بإمكان البطل تخطي الزمن في قصيدته.
تنتمي هذه القصيدة إلى شعر البوح، حيث أن الشاعر أحمد حضراوي يبوح لنا فيها بغرام بطل القصيدة لحبيبته في شكل كلام موزون. وتتوفر قصيدة “بكارة الأسماء” على عناصر البوح الأساسية، كالاعترافات الإيحائية غير الصريحة، وخبايا القصة وحبكة النهاية. والشاعر يتقن استعمال فن الإيحاء الذي يجذب القارئ ويحفزه على قراءة شعره أكثر من مرة، نظرا لسحر كلماته وجمال تعابيره، وإبداعه في تصوير المشاهد المسرحية في قالب شعري.
المعروف عن الشاعر أحمد حضراوي أن جل قصائده تنتمي إلى الشعر العمودي، وإن كان يكتب التفعيلة وأشكالا شعرية عديدة أخرى. وقصيدة “بكارة الأسماء” أخلصت للشعر العمودي وفن التفعيلة، وهي تضم مجموعة من الأبيات، قد نقرأها بشكل مستقل، كما يمكن أن تترادف لتعطي معنى حين تجتمع في سياقها الطبيعي.
ولا تخلو هذه القصيدة من الإيقاع الموسيقي، فهي سمفونية شعرية بامتياز، غنية بالمصطلحات المنتقاة بدقة، وكأن أحمد حضراوي قاموس عربي أصيل يمشي على قدمين، وحداثي أيضا، كما أنها تحترم قواعد وشكليات الشعر العمودي المعروفة.
وختاما يمكن أن نقول أن الشاعر أحمد حضراوي برع في وصف الحياة الروحية لشخصية بطل قصيدته، ومزج بين الشعرية والصوفية بامتياز في هذا العمل الفني الشعري، كما أنه يختلف عن شعراء جيله، فهو ينتمي إلى مدرسة شعرية صنعها بنفسه، والتي قد تعرف قريبا بـ..”المدرسة الحضراوية”.
رابط القصيدة: