عندما يصبح الحب لعبة أو لعنة وجودية.. !
كلما قرأتُ إبداعات الشاعرة منية علالي على شبكات التواصل الاجتماعي إلا ووجدتُ لها نكهة خاصة بسبب لغتها المتميزة وإيقاعاتها المختلفة وإيحاءاتها ذات الدلالات المتعددة. وأنا أهيئها للنشر في سلسلة «فنّ وأدب» التي دأبتْ دار نيوزيس – منشورات فرنسا على إخراجها للتعريف بإسهامات أدباء المهجر من العرب بشكل عام، والمغاربة على وجه الخصوص، وجدتني مضطرا لقراءتها عشرات المرات لأكتشف المزيد من خباياها ليتأكد لي في كل مرة أنني أمام عالم شعري متميز، فريد ومتفرد.
نعم، إنه عالم خاص تبدو فيه القصيدة وكأنها لوحة تشكيلية تختلط فيها الرؤى وتتلاعب فيها الريشة بالألوان المتناقضة فتصالح بينها لتضع بين يديّ الرائي مولودا فنيا متناسق القسمات. ولعل صعوبة هذا النوع من التشكيل الشعري تكمن في بساطة محتواه الذي يمتح من معين الحب كتجربة وجودية لم يفلت من شراكها إنسان. إنه الموضوع السهل الممتنع بامتياز، ذلك الذي أنفق فيه الشعر العربي عمره –ربما- منذ ميلاد القصيدة العربية التي ترعرعت في مغاني الصحراء بين بكاء وتشبيب ونسيب.
وإن يكُ ابن الجوزي قد عدّد ستين اسما للمحبة في كتابه «رياض المحبين»، فإن الشاعرة لم تأخذ من هذا الكم الهائل إلا النزر القليل ككلمة «حبّ» وما اشتُقَّ من فعلها، كي لا تسقط في متاهات حقل دلالي تتنافس وتتصارع فيه الكلمات ثم تتكامل وتتحد مدلولاتها فيما بعد. فلو جنحت مثلا إلى استعمال لفظة «عِشق»، وهي أرقى وأتعس أسماء المحبة -والعياذ بالله- على حد تعبير ابن الجوزي، ما كان لبوح قلمها أن يستقيم خاصة وأنها -على ما يبدو- تحرص على أن تكون عادلة في قسمتها خاصة وأنها تهدف إلى تأسيس أركان علاقة عادلة بين «الأنا والآخر»، كمعطى فلسفي وتصور وجودي لعالم المحبة، يتيه فيه العاشقان بين مدّ وجزر دائمين، لا بين أخذ وعطاء مبتذلين:
«أنت نصف غائب وكل مغيب
أنت فراغ يملأ الوجود
أنت تعب يجدد الوعود..
أعرفك وأتساءل من أنت؟
غامض حين تشاء
متردد كالقضاء،
العزف على أوتارك ابتلاء
والعزوف عنك هروب من بلاء ..».
ويظل الحرمان القاسم المشترك بين جميع النصوص، ممّا يجعلنا نستعذب عذابات «الأنا» المتكلم. لا أقول إننا أمام صياغة جديدة لبُكائيات «الطلَليّين»، أو بصدد استعادة ميؤوس منها لمواقف جسّدتها إحباطات «مواعيد عرقوب» المخجلة، ولكن أمام حالات تربّص لا متناهي تصبح فيها العلاقة بين الذات والموضوع من قبيل المستحيلات كما نستشفّ ذلك في أكثر من موقف.
نقرأ في هذا المقطع مثلا:
«أجالسك اليوم كما لو جالست الريح
ستتعب الدنيا منا ولن نستريح..».
ونقرأ في مقطع آخر:
«مثلما تعزف النساء على أوتار القلوب،
قد تعزف عن الحب..
وبين عزف وعزوف..
ترتبك أقدار الرجال..
لتعلن حالة طوارئ..
وترفع راية الانتظار».
وكثيرا ما يعصف هيجان الشاعرة -في جلّ قصائدها- بأكوام ورثناها عن تصورات أجدادنا الفلسفية للوجود بمفهومه العام، فنراها -لهذا الغرض- تعود مرة أخرى إلى معاجم موروثاتنا المتراكمة لتأخذ منها ألفاظها الخمرية فتشكلها في قوالب جديدة قلما ألفناها في تجارب شعرائنا المعاصرين:
«عربيدة شعر أنا..
هذا المساء استوقفتني حانة القصيدة
واقتنيت منها موسوعة
نسكر بها معا طول هذه الليلة
إلى أن يحل الفجر».
إن حركية قصائد هذا الديوان لا تتحكم فيها فقط سلسلة الأضداد التي تمنحها جماليات اللغة، ولا حالات الصراع بين «الطالب والمطلوب» التي نلمسها بشكل جليّ في كتاب الشاعرة الثاني «ثمن البوح»، تلك الحالات التي كثيرا ما تتردد عند شعراء الصبابة كما في قول أحدهم:
باتا بأنعم ليلةٍ حتى بدا
صبحٌ تلوّح كالأغرّ الأشقر
فتلازما عند الفراق صبابةً
أخذَ الغريم بفضلِ ثوبِ المُعسر
إنما تتجسد هذه الحركية في صراعات من هذا النوع مع شتى قوانين الوجود. فلا غرابة إذاً إذا نحن وجدنا الشاعرة غالبا ما تجنح إلى الموروث العقائدي والديني لتحاوره بدل الاقتباس من التصور الإنساني الأسطوري -الإغريقي على وجه الخصوص-، هذا الذي كان من الممكن أن يفيَ بالغرض خاصة وأنه كان قد تسرّب إلى القصيدة المعاصرة عبر تجارب جيل الرواد. هنا تبدع الشاعرة وهي تناغم بين المتناقضات في قراءة مجازفة وموفقة لما اختزنته الذاكرة وعايشته الذات في المجتمع الشرقي –ثقافيا-، هذا الذي تنتصر فيه سلطة المنع المركب من ترسبات الماضي الذي يختلط فيه المُعتقد ببقايا الأصالة، فتتولد عن هذا الاختلاط ثنائيات لا حصر لها من قبيل الحظر والترخيص والحلال والحرام. فإذا كان العاذل والواشي –قديما- ومن حدا حدوهما قد أبدعوا جميعا في ترتيب الحيل لسد منافذ الوصال، فإن سلطة الأخلاق تفانت في إفساد براءة المحبة عندما حاربت الحب وشككت في أسانيد المأثور الطيب: «من مات قتيل الحب مات شهيدا». فأين نحن الآن من بني عذرة وثقافة وادي العقيق؟ ولكن كيف تستوي على جودي الأمان مراكب المنع وهي تمخر جاهدة لقهر هيجان محيطات العزيمة والإصرار؟
تقول الشاعرة في مقطع من إحدى قصائدها:
«أريدها ذاكرة عرجاء
لا تتحرك
لا تخطو إلى أمام ولا إلى وراء
لكنها عنيدة
لا تطاوع
تقف هناك على شرفتك المتناهية
وتحكي على الملأ
أن إشراقة عينيك.. كنسيم الصباح
والحب فيك رغم المنع
كل يوم مباح
والحب فيك رغم المنع
كل يوم مستباح
والحب فيك رغم المنع
كل يوم مستباح!».
وفي مقطع آخر:
«حيّا على العشق فيك رغم التحريم
واشهد لي ببراءة القصد
لما تحلّ كالغريب
لما توقظ الحنين وترحل
لما أتساءل ولا تجيب
لما أكرر فيك السؤال ولا أخجل!؟».
ومع كل هذه السجالات التي لا تنتهي، تعود الشاعرة إلى براءة الكتابة فتبدو وكأنها طفلة تتعلم كيف تتعامل مع المواقف البسيطة التي تفرضها العلاقة مع الآخر: الحنين، المفاجآت، الترقب، محاولات النسيان.. وهنا تعود اللغة إلى بساطتها في محاولة للترقي فوق مستويات المباشرة السردية:
«أمتنع عن الكتابة
أمتنع عن القراءة
أعتكف..
أصوم..
لكن فنجان قهوة الإفطار
له نشوة لا تشبه إلا نشواك
ألوم نفسي..
أعاتب قلبي..
وأرسم المشاريع لأنساك
فأمارس الرياضة،
وأخرج مع الصديقات،
ونحكي ونسهر..
أتجول في المحلات
لأتحلى حللا جديدة
غير تلك التي تحبها
وحين أخلد إلى النوم
وإن كنت متعبة
أبدا لا أنسى
أني يجب أن أنساك».
وأخيرا، إن هذا الديوان الذي أتشرف بنشره لأول مرة، مع بساطة لغته وتداول موضوعه، هو -على ما يبدو لي- قفزة نوعية في معالجة علاقات الإنسان بالإنسان، كمعطى وجودي تحاول الشاعرة من خلاله أن تقدم رؤية شمولية لفلسفة الحب في أسمى معانيه. وبما أن اللغة والإيقاع أَوانٍ نصبّ فيها ذواتنا، فقد تشكلت موسيقى القصائد من تناغمات داخلية لا ينبغي لنا البحث عنها في موازين القصيدة العربية المتعارف عليها، ولكن في تشكلات النص ذاته، كذات تتموقع في فضاء تجربة فردية وجماعية تتداخل فيها الكلمات، فتتشكل بمبانيها ومعانيها لتقدم رؤية أحادية الجانب لمقاربة الغامض في المألوف والمعتاد. في نظري، هكذا يجب التعامل مع هذ النوع من النصوص!
د. يحيى الشيخ
مدير المركز العالمي للدراسات العربية
والبحوث التاريخية والفلسفية بباريس.