القصيدة : أُمّاهُ، لَيتَكِ … !
أُمّاهُ لَيْتكِ ما وُلِدْتِ ولمْ نَكُنْ
غُرَباءَ يا أُمّاهُ في هذا الوُجودْ
يا لَيْتنا عَدمٌ فَنخلُقُ حَــــوْلَنا
مِنْ ذَلكَ الْعدَمِ العَريضِ يَدَ الخُلودْ
ونُجَفّفُ الدمعَ السَّخينَ إذا جَرى
طَلْقاً نَدِيّاً في مَتاهاتِ الخُدودْ
أُمّاهُ يا وَطَني هَجَرْتُكِ بَـــــعْدما
غنّى الزمانُ على خُرافاتِ الْجدودْ
سَأَعودُ يا أُمّاهُ يوماً إنْ مدَدْتِ
يداً إليَّ لِكيْ أُوَدِّعَ أوْ أَعــــــــودْ
(جرسيف، 1979م).
ـــــــــــــــــــــــــــ
من عمق الوجع، ومن بؤرة اللاوعي المثقف لصبي السادسة عشرة تفتق نبعٌ شاعري شفيف كأنما هو ينظر بعين شيخ خبر الألم وعاش المعاناة، فانبثقت قصيدة تزخر بفلسفة تكاد تحاكي فلسفة “المعري”. لكن الخبرة بينهما تختلف، كل منهما تمنى لو أنه لم يولد ولكل منهما أسبابه الخاصة. من المعروف للكثيرين منا أن “المعري” عاش أحداثا في حياته سببت له جروحا عميقة في نفسه لم يمحها كرّ وحدات الزمن بل زادت من شدّتها ونتج عنها ندوبا أخذت تنمو وتتعاظم حتى عاش في ظلها كئيبا أبدا. أصابه الجدري في أول نشأته في السنة الثالثة من عمره وعلى إثره عميت عيناه. لكن أكثر ما أثر في نفسه وفاة والدته وهو عائد من بغداد، بعد علمه بمرضها، ولم يدركها وهي على قيد الحياة، وقبل ذلك وفاة والده. كل تلك الأحداث التى عانى من آثارها إضافة إلى العزلة القصرية وتلك الاختيارية التي سببت له الشعور بالضيق والغربة ومن ثمّ التشاؤم الذي أغرق روحه فيه، عاش غربة مغلفة بعدة طبقات واحدة تلو أخرى. تتجلى لنا هذه الطبقات من العزلة من خلال وصفه لها في قصيدته :
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيت
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث.
وقوله :
تعب كلها الحياة فما أعجب
إلا من راغب في ازدياد
إن حزنا في ساعة الموت
أضعاف سرور في ساعة الميلاد..
كل هذا التشاؤم والإحساس بالغبن والغربة تسرب من خلال شعر المعري إلى نفس الصبي المغرم به. وهو ذاته ذاك الطفل الذي ما أن أتمّ الثالثة من عمره حتى فُجع بوفاة أمه التي لم يعرفها إلا مريضة تعاني الآلام أمام عينيه. وأب سجن في وقت شدة الفجيعة فبات الصغير وإخوته وحيدين في عالم لا يرحم، أيتام في مجتمع يبخس حق الإنسان عليه. وعندما سألت البروفيسور “يحيى الشيخ” شيئا من توضيح حول مناسبة هذه القصيدة وكيف تسنّى له كتابة قصيدة بهذا العمق الوجودي في سنه الصغير ذاك أجاب: كنت أقرأ للمعري الذي قال: ” هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد” لأنه سئم الحياة. وأنا لم أحمل الأم مسؤولية ولادتي لأنها عاشت شقية بسبب مرضها. تمنيت لو لم تولد هي أصلا لكي لا تتعذب ونتعذب نحن الأولاد الخمسة بسبب فقدها. كان والدي يحبها حبا جما ولم يأل جهدا في علاجها. ماتت وعمري ثلاث سنوات، وأنا الآن لا أتذكر صورتها. ثم أنني ولدت في قرية نائية بشرق المغرب لم تكن فيها كهرباء ولا مصور. فليست عندنا اليوم أي صورة لوالدتي رحمها الله ورحم الأمهات أجمعين. عندما كتبت القصيدة لم أفكر في أي شاعر آخر وقلت مع الزمن لعلني تأثرت بالمعري في مطلعها. ثم إن الوالد الذي كان يقوم بدور الأب والأم معا سجن بسبب مواقفه السياسية لمدة سنوات. وسجنت أنا أيضا عندما كنت طالبا في الجامعة بسبب السياسة يعني التهميش حتى من الأقربين. كانت طفولتي سجنا من الولادة إلى نهاية الجامعة، لهذا أتحدث كثيرا عن السجن والمنفى والمرأة/ الهاربة. وإلى الآن أشعر دائما بالانقباض ولا أكتب إلا في هذه الحالة. وكل قصائدي تأتي أبياتها مترادفة كأنها السيل، وبعد ذلك أراجعها وأعدلها ليستسيغها القارئ. ويظل الشعر والأدب المتنفسين الوحيدين لخلق نوع من التوازن في حياتي البئيسة. وعندما سألته، هل كنت تستوعب المعاني الواردة في شعر المعري وأنت في عمرك ذاك؟ أجاب: لم أكن أفهمه، لم أكن أفهم الشعر القديم كثيرا رغم إعجابي به. كنت أحس فقط بعالم الشاعر بشكل عام لأن القصيدة العربية مليئة بالإيحاءات والدلالات. تلك المعلومات التي زودني بها الشاعر عن الظروف التي فعلت فعلها في وجدانه الفتِيّ فأطلقت لسانه بقصيدته هذه جعلتني أقف على مشارف ذات واعية غاص فيها الألم حتى فاض منها إبداعا، تطاول حتى لامس فكر كبار الشعراء، وقد ذكرت منهم “أبو العلاء المعري”. نعم يمكن للقارئ أن يقرأ لكاتب ويحلل، يصول ويجول في عباراته والمفردات ويخرج بلآلئ زخر بها العمل كانت مطوية في ثناياه، يمكن أن تكون هذه القراءة أو تلك تواصلا بين ذهن وذهن، بين مبدعٍ كاتب وآخر متلقٍّ لهذا الإبداع، لكن التواصل الحقيقي بمعنى القراءة الكاشفة التي تسبر عمق النص لن تكون دون التواصل الحقيقي بين المبدع وناقده إن كان على قيد الحياة، أو دراسة ظروفه وملابساتها في حالة غيابه. فالقراءة في نظري إن هي إلا محاولة للفهم من خلال حوار بين ذاتين، تواصل يمد خيوطه ليصنع نسيجا واحدا متآلفا يعيد فيه الناقد صياغة النص من جديد بصورة أكثر وضوحا. هي كما قلت نوعا من التواصل الذهني يثريه التواصل الواقعي عبر إحداثيات الزمان والمكان مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. من هنا تتضح مقولتي من أن القراءة تواصل بين ذات وأخرى، فمن قرأ فكرة فقد تواصل مع منتجها، ومن تابع مبدعا ما فقد قرأه مما يعني فهمه، لكن يبقى فهمه بحاجة إلى مزيد تواصل على المستوى الأحداث لتكون القراءة أكثر عمقا وأقرب إلى حقيقة ما قصده المبدع ذاته. والقراءة أو التحليل النقدي رغم أنه دراسة عن علم، له مناهجه وله أدواته ويعتمد آليات محددة وقيم يلتزمها إلا أن قراءة الفن وكذا الأدب بكافة أجناسه يتضمن شيئا من كهانة تحتاج حدسا دقيقا وبصيرة نافذة كي تصل إلى ما لم يُصرِّح به أو يعلن عنه الأديب أو يحاول قوله. دوما هناك شيء ما في اللاوعي يتفلت من وعي الكاتب وينطلق عبر ألفاظ تعطي دلالات ما لم يتقصدها الأديب لكنها تتسرب إلى نصه.
أُمّاهُ لَيْتكِ ما وُلِدْتِ ولمْ نَكُنْ
غُرَباءَ يا أُمّاهُ في هذا الوُجودْ
من خلال ذاك السرد الذي بدأنا به الدراسة تتضح لنا أسباب قول الشاعر هذا البيت الذي يستهل به قصيدته، إذ يعيش غربته المركبة الناتجة عن إحساسه بالغبن، غبن يطال وطنه الأول، يمتد ليطاله هو بالضرورة، سجن المرض وقيده لهذا الحضن الذي يحتضنه يقيده كذلك، يدمي مشاعره المرهفة الحساسية، يحزن، يتألم، لكن ما باليد حيلة، عجز تام يدفعه إلى تمني ما لا يتمناه إلا يائس محبط. هنا يتفتق هذا البيت عن حس فائق الإدراك، ووعي عميق بالمستحيل، ويتمنى لو تم اختراقه، فالأم وُلدت ومرضت وعانت، وها هو وليدها ينظر إليها ويعيش معاناتها وهو عاجز تماما عن فعل شيء، فماذا يفعل غير تمني المستحيل ذاته لو أنه حل محل الواقع المشهود والمعاش. وهنا يبرز لنا ذكاء الشاعر وقدراته اللغوية التي اكتسبها من قراءته للشعر ذي المعاني العميقة كما وردت في شعر “المعري” وغيره من فحول الشعراء فتشربها لتنطلق على لسانه، سواء كان مدركا لهذا المعنى العميق أو لم يكن يدركه. فقد تفتق عن وجدانه الذكي كما يتفتق ماء النبع عين عيونه. وهذا يؤكد لنا مدى أهمية الثقافة التي ينهل منها الأبناء إذ ستشكل آبارهم التي منها ينضحون.
أُمّاهُ لَيْتكِ ما وُلِدْتِ ولمْ نَكُنْ
غُرَباءَ يا أُمّاهُ في هذا الوُجودْ
لماذا تمنى الشاعر ذاك المستحيل، هل بسبب مرض الوالدة وشدة معاناتها فقط ؟ لا أظن، لأن جوابه قد حمل في طياته السبب والنتيجة معا. فما أصابها قد أصابه بآثارٍ نفسيةٍ انتزعت منه الرغبة بالحياة، بوجوده من الجذور، بوجود وطنه الأول الذي نما في رحمه جنينا ليخرج شاهدا على معاناة الحياة ذاتها عندما تتحول إلى مجموعة من القيود. قيود تقصيه، بل تكون سببا لإقصائه عن معنى الحياة ذاتها. فما حياة الإنسان إلا أنْساً وألفة وإحساسا بالإنتماء لما حولنا إن فقد ذلك فقدنا معنى الحياة وأصبحنا غرباء فيها. فكيف يمكن أن نتصور ماء دون إناء يحتويه ! إلا أن يكون غيثا. نعم تحولت حياة الصبي إلى غيث سكبه الشاعر معانيا في قصيدته لتصبح وطنا بديلا لحضن أمه دون أن يدرك ذلك. ينفث فيها لواعج وجدانه عله يستريح ولو قليلا، فقد يحمل العدم راحة من عيش ينهش فؤاده كوحش كاسر مقيت. يكفي أننا في العدم لا شيء، ومن هنا تنتفي المعاناة فلا سجن ولا قيد لروح في جسد عليل أو في آخر معتل لعلة الوطن الحبيب.
يا لَيْتنا عَدمٌ فَنخلُقُ حَــــوْلَنا
مِنْ ذَلكَ الْعدَمِ العَريضِ يَدَ الخُلودْ
ها هو الشاعر الصغير الفتيُّ يود اختراق مستحيل من خلال مستحيل آخر. يخترق واقعا آنيا حاضرا إلى مستحيل ومنه إلى مستحيل ثانٍ. يتجاوز كل الممكنات! فلماذا ؟ إنها لحظة اليقين بأن الأمر قد نفذ ولا راد له، هذا العذاب هو الممكن الوحيد، وهذه المعاناة لا، لن تنتهي إلا بالموت ! حتى هذا الموت يشفق منه على الوالدة، لا يريدها أن تعانيه، يود لو أنها لم تخلق أصلا كي لا تعيش ما يعايشه من عذاباتها. تُرى هل كان يدرك ذاك الفتى مرهف الحساسية المعنى الفلسفي للعدم ؟! أتصور أن لا، ذلك أنه أكمل: “فنخلق حولنا من ذلك العدم.. “، هنا وقع التناقض، هنا وضحت شدة المعاناة التي تبحث عن بديل أيٍّ كان، وهنا يتبدى القفز الحر لحيوية الشباب فوق كل الاحتمالات إلى اللاممكن. إلى خلق الخلود من العدم. فكيف يستقيم ذلك إلا في مخيلة مبدع فتي يمتلئ بحيوية الحياة والأمل رغم كل ما يواجه من دلائل على الغياب، وربما على الفناء، إلا أن أقرب معنى هنا هو الموت الذي يحمل في معناه كل معاني العدم في ذهن صبي يرى أمه تضمحل أمام عينه وهو عاجز تماما عن فعل شيء، فلماذا لا يقفز قفزته الحرة تلك ولتكن النتائج ما تكون، فلن يخسر بعد خسارته لأمه شيئا أعظم من خسارته لها. كل ما سبق واضح المعنى والدلالة ولكن ما الدواعي التي جعلته يستشعر الغربة. ليست المعاناة، ولا انعدام تعاطف الغير مع الوضع ولا تخلي أقرب الأقربين عنهم يمكن أن يشعر هذا الفتى بالغربة ووطنه الحقيقي – أمه – أمام عينه ينعم بدفء وجودها، والوالد ما زال حيا يرزق يعتني بالجميع، وله أخوة يتحلقون من حول الأم، فلمَ هذا الإحساس بالغربة إذاً ؟! تلك الغربة التي تنخر نفسه كما سوسة تنخر جذع نخلة باسقة لا زالت في أوج نموها، ويأتينا الجواب: “..غرباء يا أماه في هذا الوجود..”، هذه الحياة التي نعيشها ليس مستقرها هنا. هذه الدنيا الفانية التي تتسبب في أذاك أماه ليست حياة حقيقية، وإن كانت هي الحياة فالعدم أفضل منها.
ونُجَفّفُ الدمعَ السَّخينَ إذا جَرى
طَلْقاً نَدِيّاً في مَتاهاتِ الخُدودْ
نعم هو يريد الخلود حتى وإن كان من ذاك العدم ليستعيد سعادته وسعادة الوالدة. يود إيقاف كل مسببات هذا الحزن. صور يبدعها الفنان الشاعر، إذ يرسم لنا من خلال بديع الكلام صورا شاعرية تجعلنا نستشعر عظم الجراح التي يعيشها وهو يعايش ما تعانيه الأم. فالدمع ليس مجرد قطرات تنهمر من العيون بل طلقا نديا، طلقا لأنه متحرر من الكم والكيف منهمرا ورغم أنه دمع إلا أنه نديٌّ، لا ملح فيه كما قطرات الندى العذبة، ندي لكثرة جريانه فما عاد يحتمل فيه ملحا، فكأنما أصبح لكثرته ودوام هطوله عذبا. “في متاهات الخدود”، ولتوضيح هذه الصورة المجازية البديعة في رسمها الدقيق أقول: من ينظر إلى باكٍ تهطل عيناه بالدمع السخيّ سيجد أن الدمع لا يجري في مسلك واحد بل يأخذ له عدة مسارب في الخدين. حتى تكاد ترى صفحة الوجه بألوانها الشفافة المتدرجة ما بين الدمع ولون الجلد ذاته قد رسم بالفعل خطوطا تتوه الدمعات الأخرى بينها أيها تختار ! جمال وحسن وتألق يتبدى لنا صورا يخلقها الشاعر خلقا في نصه هذا رغم كل الجراح التي يعاني من آثارها. فهي – أي هذه الجراح – وإن كادت لتصدع وجدانه وإيمانه بالواقع وبالحياة ذاتها إلا أنها كانت نبع جمال رائق بديع.
أُمّاهُ يا وَطَني هَجَرْتُكِ بَـــــعْدما
غنّى الزمانُ على خُرافاتِ الْجدودْ
سَأَعودُ يا أُمّاهُ يوماً إنْ مدَدْتِ
يداً إليَّ لِكيْ أُوَدِّعَ أوْ أَعــــــــودْ
في هذين البيتين الأخيرين من القصيدة قفزة أخرى في عالم المعاني يقفزها الصبي، من معنى الأمومة القريبة إلى أمومة “الأرض”، الأم الأكبر والمفروض أنها أعظم من حضن من لحم ودم، فإن كانت الأم الإنسانة قد أنجبت، فالأم الأصل هي التي تشكلت منها طينة البشرية كلها، فكيف بطينة شكلت ذاتية الشاعر ككل. قد غادرت الأم الحبيبة فكانت الفرقة بين الوليد وأمه، كانت هجرة طبيعية أحدثها الموت الذي لا بد منه، حدثت هجرة القضاء والقدر من إلى. وكأن الشاعر يقول: كتب علينا الموت وقضي الأمر فاضطررت إلى هجرك أمي رغما عني عندما حمَ القضاء. هجرت جسدك إذ هو عائد إلى ما صدر عنه، لكن هل هذا يفي بالمعنى الذي أراده الشاعر وقد أكمل: هجرتك بعدما.. غنى الزمان على خرافات الجدود.. سأعود.. هنا تبدأ القفزة النوعية الأخرى وعلى عدة مستويات. هنا يتشكل معنى العدم لديه. لحظة ميلاد الوجع الحقيقي الذي سيرافقه العمر كله لحظة إحساسه العميق بالفقد، بالغربة. وهي ذاتها لحظة ميلاد الوعي الأعمق بمفهوم الوطن الأرض. جذر هويته، أناته كإنسان خلق على بقعة معينة من هذا الوجود، بقعة ليتها كانت عدما من العدم ولا عانى وجوده فيها يوما كل هذه المعاناة. لو أن جذر وجوده لم يوجد أصلا. إحساس رهيب من صبي لم يشرئب بعد إلى الشباب فالرجولة. ترى كيف سينظر مثل هذا الشخص إلى مستقبل أيامه وكيف سيعيشها وأعظم إحساس لديه، يزداد تعاظما هو رغبته بعيش العدم. امتد الأفق إذا لديه، بالوعي تم دفعه إلى أقصى مدى، ليقفز منه إلى ما عداه. من خرافات عايشها الأجداد، من أوهام اكتنفت حواسهم، من حكايات قيلت لهم، تناقلوها، سادت حتى بدت وكأنها حقائق. استملحوا فيها الكذب، تقولوها عن الوطن والمواطن، عن السعادة والهناء في حضنه، عن.. وعن، حتى أفسدوا العقول والنفوس وماتت الهمم. فما هو الوطن يا ترى ؟ أهو الجبال والحجارة والسهول والهضاب ؟ أهو ما تحت الأرض وما فوقها ؟ أم هو الإنسان الذي يجترح هذه الأرض لتعطي ثمرها، ويغزو فضاءها ليعبر سماواتها ؟ أم هو الإنسان يحسن معاملة الإنسان ؟ الأرض دون مواطنها ليست إلا مساحة مباحة لكل شيء. ولهذا نجد الشاعر يقول :
سَأَعودُ يا أُمّاهُ يوماً إنْ مدَدْتِ
يداً إليَّ لِكيْ أُوَدِّعَ أوْ أَعــــــــودْ
هنا يتأكد لنا أن المقصود هو حضن الوطن لا حضن الأم. فبعد أن سُجن الوالد وسجن الصبي أصبح غريبا في وطنه وهو يعيش فوق أرض هذا الوطن. وجوده فيه أو مغادرته سيان. فهو يعيش حالة ترقب، حالة انتظار. تُرى متى تمتد إليه يد الوطن ملوحة له وهو يغادر أو مرحبة به إذ يرتد إلى صدر حنون يعيش في ربوعه مطمئنا ! وللأسف فقد اضطر الشاب فيما بعد أن يغادر إلى غربة حقيقية وعلى كافة المستويات إذ غادر إلى باريس.. من هنا أستشعر نكهة الغربة والحب والتعلق بذاك العشق الباريسي في قصيدته “العشق الباريسي” للمدينة، ونساء المدينة، وتلك المعشوقة الرمز والإنسانة فيها، وتلك اللوعة الحارقة التي اشتعلت في فؤاده فحرقت وجدانه لتتركه رمادا كتب فيه قصيدته تلك وأنا التي لم أستسغ القصيدة حتى قرأت قصيدته هذه لتكون قاموسا تتفتح لي صفحاته فأفهم “يحيى الشيخ” الإنسان الذي قمت بقراءة عدة أعمال له تعرفت من خلالها عليه من داخل نفسه وليس من ملامح وجهه فقط أو تعامله معي على مستوى إنسانيتنا كمفكرين يهتمان للقضايا.