*نضال*
اِرتجَّت الأرضُ تحتَ أقدامِها، وتناثرت الأشياءُ من حولِها. صراخُ أمها امتزجَ بأصواتِ الانفجاراتِ المتتاليةِ، ورائحةُ البارودِ الخانقةِ ملأتِ المكان. رأتْ “نضال ” والدَها يسقطُ أمامَ عينيها مضرّجاً بالدماء، وحين حاولت الاقترابَ منه، صرختْ والدتُها: “اُهربي يا نضال، اُهربي!”
في لحظةٍ لا تُنسى، تحوَّل المنزل إلى ساحةِ حربٍ.. صوتُ الانفجارِ كان أقوى من أيِّ شيءٍ سمعتهُ في حياتها، الأرضُ اهتزتْ تحتَ قدميها، والجدرانُ تصدعتْ، نظرتْ حولها فرأت الغبارَ يتصاعدُ في كلِّ مكان، والأثاثَ يتناثرُ محطماً.
كانت أمها تجرها وهي تركضُ بها خارجَ المنزل، لم تلتفتْ “نضال” إلى الوراء، كانت مرعوبة من هول ما تراه. وجدتْ نفسَها في الشارعِ، حيثُ كان الناسُ يركضونَ في كلِّ اتجاهٍ، بعضُهم يبكي، وبعضُهم يصرخُ، وبعضُهم يحملُ أطفالَه ويهربُ.
رأتْ جيرانَها الذين كانوا يضحكونَ معها بالأمس، اليومَ يركضونَ في خوفٍ وهلعٍ.. نظرتْ إلى وجوهِهم فرأت الرعبَ والخوفَ، كانَ هناكَ رجلٌ يحملُ طفلَهُ الصغير وهو مضرج بالدماء، كانَ يبكي بصوتٍ عالٍ، وامرأةٌ حافية تركضُ وهي تحملُ رضيعها.
كانَ المشهدُ فوضويّاً، الناسُ يتدافعونَ في كلِّ اتجاهٍ، والصراخُ يملأُ المكان. كانت “نضال” خائفةً جدّاً، لكنها كانتْ تمسك بقوة بيد أمها وهي تسترق النظر إليها مرة مرة
فترى ملامح الخوفِ في وجه أُمها وهي تدفعُها في الشارع فيتضاعف خوفها…
هربتْ “نضال” مع أمها في الظلامِ الدَّامِسِ، ولم تعرفْ إلى أين تأخذُهما قدمَاهُما، كان الرعبُ يملأُ قلبَهما، وصورُ الموتِ تُطاردُهما في كلِّ مكان….
بعد ساعاتٍ من التَّعبِ والجُوعِ والخوفِ، وصلَتا إلى مخيمٍ للاجئين. وجَدَت “نِضال” في المخيمِ آلافَ الناسِ الذين يشبهونَها، فقَدُوا بيوتَهم وأحباءَهم، لكنهم لم يفْقِدوا الأملَ في العودة إلى منازلهم.
عندما وصلتا إلى المخيمِ، كانتا في حالةٍ يُرثَى لها، كانتا مُتعَبتَين وجائِعتَين وخائِفتَين.. لم يكُن لديهِما مكانٌ ينامانِ فيه، ولم يكن لديهما ما يأكُلانهِ، لكنهما لمْ تسْتسْلما لليأس، فقد وجَدتا في المخيمِ بعض الأملِ، حيث كان هناك منْ قدَّم لهما المُساعَدة، حصَلتا على خيمَة صغيرةٍ تؤْوِيهمَا، وتلقتا بعض الطعام والماء.
في الأيام الأولى، كانت نضال تعيشُ في حالةِ صدمةٍ، كانت تتذكرُ الانفِجارَات التي كانت تهزُّ منزِلها، وتتذكرُ رؤيةَ أشلاءٍ بشريةٍ في الطرقاتِ. كانت هذه المشاهد تلاحقها في أحلامها، وتجْعلُها تستيقظُ في الليلِ وهي تصرخُ من الرعبِ.
كانت تخاف من كل شيء… من الضوضاء والصراخِ ورؤية الغرباءِ، كانت تتذكرُ صوت القنابلِ التي كانت تسقطُ في كل مكانٍ، وكانت تخاف من أن يحدث نفس الشيء في المخيمِ.
كانت تشتاقُ إلى والِدِها وأخيها اللذينِ فقدا حياتهما في الانفجارِ، وكانت تشعرُ بالوحدةِ والضياعِ، كانت تبكي كثيراً في الليل، وكانت تتمنى أن يعود كلُّ شيء إلى ما كان عليهِ مثلهَا مثل كلِّ الأطفالِ في المخيمِ.
***************
ــ مقدمة :
قصة “نضال” للكاتبة المبدعة الدكتورة فاطمة الديبي تقدّم تجربة إنسانية مؤلمة، تعكس واقع النزاعات والحروب، حيث تأخذنا في رحلة مؤلمة مفجعة لطفلة صغيرة تجد نفسها في خضم حرب مدمرة، تفقد على إثرها والدها وأخاها، وتضطر مع والدتها للنزوح إلى مخيم للاجئين.
ــ في أحضان القصة :
1 ــ دراسة العنوان :
العنوان يتكون من اسم عَلَم “نضال”، وهو مبتدأ مرفوع، والخبر مَتْنُ القصة. ومن الناحية الدلالية فاسم “نضال” يحمل معاني ودلالات رمزية وواقعية متعددة، فهو يُجسّد معنى الكفاح اليومي والمثابرة والصراع من أجل البقاء، ويشير إلى الإرادة الصلبة في مواجهة الصِّعاب والتحديات، ويُظهر التناقض بين ضعف الإنسان أمام عنف الحرب، وقوته الداخلية وعزيمته الصلبة في مقاومة اليأس، مما يُعمّق مفهوم النضال كفعل وُجوديّ. ويَعكس العنوان بشكل مباشر تجربة الشخصية الرئيسية “نضال”، التي تناضل وتكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، بعد أن فقدت أباها وأخاها ومنزلها في الحرب.
2 ــ الأحداث :
تبدأ القصة بتعرّض منزل “نضال” لهجوم عنيف، مما أسفر عن مقتل والدها وأخيها وتدمير منزلها وتشريدها مع والدتها، فاضطرت للهرب معها في الظلام الدامس والاتجاه نحو المجهول، ومشاهد الرعب تطوقهما، لتصلا إلى مخيم للاجئين، حيث تجدان آلاف الأشخاص الذين يشبهونهما، حيث فقدوا كل شيء، فتعيش “نضال” حالة صدمة شديدة، وتلاحقها ذكريات الحرب والكوابيس في أحلامها، وتحاول التأقلم مع الحياة في المخيم، والتغلب على الصدمة والخوف كرمز لاستمرار الحياة.
3 ــ الشخصيات :
ــ نضال : هي محور القصة، وتمثل الأطفال الذين يعانون من ويلات الحروب، واسمها يحمل معنى الكفاح والصمود، وهو ما تجسده في مواجهة ظروف الحرب القاسية.
ــ الأم : تمثل الأم المأوى والحماية لِ “نضال”، خوفها وقلقها يعكسان حجم الرعب الذي يعيشه المدنيون في الحروب، وهي مستعدة للتضحية بنفسها من أجل ابنتها، وتدفعها للهرب لإنقاذ حياتها.
ــ الأب : يظهر في بداية القصة كرمز للأمان والحماية، ولكنه يفقد حياته في الهجوم. موته يمثل الفقْد والضياع الذي يعاني منه الأطفال في الحروب، وبالنسبة لِ “نضال” فموته يترك أثرا كبيرا في نفسيتها، ويجعلها تشعر بالوحدة واليأس.
ــ الجيران : يظهرون كأشخاص عاديين، يتحولون فجأة إلى ضحايا خائفين، يمثلون الوجه الآخر للحرب، حيث يتحول الأصدقاء والجيران إلى غرباء في لحظة.
ــ الأخ : شخصية ثانوية، يمثل جزءا من عالم “نضال” الذي فقدته بسبب الحرب، فهو يمثل الطفولة البريئة، والحياة الطبيعية التي كانت تعيشها قبل أن تدمر الحرب كل شيء. وفقْده مثل فقْد الأب يزيد من شعور “نضال” بالفقد والوحدة واليأس.
ــ اللاجئون في المخيم : يمثلون مجتمعا من الضحايا الذين فقدوا كل شيء، يشتركون في نفس المعاناة والأمل، ويقدمون الدعم لبعضهم البعض.
ــ عُمّال الإغاثة : يقدمون المساعدة والدعم للاجئين، يمثلون الأمل والإنسانية في ظل ظروف الحرب الصعبة.
4 ــ الزمان والمكان :
١ــ الزمان : لا تحدد الكاتبة زمانا معينا للأحداث، ولكنها تشير إلى فترة حرب، وغالبا تقصد الحرب على غزة، ويمكن أن تشمل سوريا أثناء قصف النظام المخلوع شعبَه، وهي لحظات الانفجار المفاجئة، وهو زمن دراميّ سريع يعاكس بطء الزمن في مخيم اللاجئين.
٢ــ المكان : المكان يلعب دورا حاسما في القصة؛ من المنزل الذي كان رمزا للأمان والذكريات فتحول إلى ساحة حرب، مما يعكس زعزعة الاستقرار، مرورا بالشارع الذي تحول إلى فضاء للفوضى والموت: (أشلاء بشرية ــ ناس حُفاة)، ويرمز إلى انهيار النظام الاجتماعي. وفي الأخير المخيم الذي رغم كونه مكانا للجوء والأمل إلا أنه يحمل أيضا شعورا بالضياع والفقدان، ومكان مؤقت بلا هوية، يجسد التشرد وفقدان الانتماء، مما يعكس واقع اللاجئين.
5 ــ اللغة :
استخدمت الكاتبة لغة بسيطة وواضحة، تسهّل على القارئ التفاعل مع الأحداث والشخصية الرئيسية، إلا أنها تتسم بالقوة والتأثير، تعكس حجم المعاناة التي تعرضت لها البطلة وعائلتها. كما اعتمدت الكاتبة على التصوير الحسيّ للأحداث مما يجعل القارئ يعيش التجربة بكل تفاصيلها المؤلمة : (السمع : “أصوات الانفجارات”، “صراخ الأم”، “بكاء الطفل” ــ البصر : “الدماء”، “الغبار”، “أشلاء بشرية” ــ الشم : “رائحة البارود”).
6 ــ السرد والحكي :
اعتمدت الكاتبة على السرد من منظور الرؤية من الخلف باستخدام ضمير الغائب، مما يمنح القصة بُعدا موضوعيّاً ويتيح للقارئ رؤية واضحة لمشاعر البطلة الداخلية والتعاطف معها. وقد دمجت الكاتبة بين السرد السريع في مشاهد الهرب مما يعكس الفوضى والذعر، والبطيء في المخيم مما يُظهر ثقل الانتظار وطول أمد المعاناة. كما اعتمدت على الفلاش باك من خلال ذكريات “نضال” عن أبيها وأخيها التي تُبرز عمق الفقْد. بالإضافة إلى تقنية المونولوج الداخلي من خلال تعبير “نضال” عن حنينها : (كانت تتمنى أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه). وبالنسبة للحكي اعتمدت الكاتبة على أسلوب الحكي التصويري؛ حيث ترسم صورا حية للأحداث والشخصيات.
7 ــ الرمزية :
ــ الانفجارات : تمثل فوضى الحرب، وتأثيرها المدمر على حياة الأفراد. فهي رمز للدمار والفقدان، حيث تؤدي إلى فقدان الأحباء والأمل.
ــ المنزل : يرمز إلى الأمان والاستقرار، وبتحوله إلى ساحة حرب يصبح رمزا لفقدان الأمل والحنين إلى الماضي.
ــ الدماء : رمز للفقدان والموت.
ــ الغبار : رمز للضياع والفوضى.
ــ المخيم : يمثل الملاذ المؤقت، إلا أنه يرمز إلى الحرمان والمعاناة والتشرد والضياع، فهو يجمع بين نقيضين: الأمل واليأس.
ــ الأطفال : الأطفال في المخيم بمن فيهم “نضال” يمثلون براءة الضحايا، وهم رمز للأمل في المستقبل رغم ما يواجهونه من صدمات وفقدان.
ــ الأم : تمثل الحماية والرعاية، ولكنها أيضا تعكس الضعف في مواجهة الازمات. هي رمز للحنان الذي يحاول البقاء رغم الظروف القاسية.
8 ــ الرسائل :
من خلال هذه القصة تسعى الكاتبة إلى إيصال رسالة إنسانية عميقة عن أهمية الصمود والأمل في وجه الصعاب، وتكشف لنا عن أهوال الحرب وتأثيرها المدمرة على حياة المدنيين وخاصة الأطفال، وتسلط الضوء على معاناة اللاجئين، والظروف الصعبة التي يعيشون فيها. كما تدعونا إلى التفكير في مصير الأطفال الذين يعيشون في مناطق الحروب والنزاعات، والذين يحتاجون إلى دعمنا ومساعدتنا كمجتمع دولي.
ــ خاتمة :
“نضال” قصة قصيرة مؤثرة، تدمج بين الواقعية والرمزية لتقديم رؤية شاملة عن تداعيات الحرب، ليس كحدثٍ عابر، بل كجرح ينزف في الذاكرة الفردية والجماعية، وعن اللجوء والأمل. تتميز القصة بأسلوبها القوي والمؤثر، وتصويرها الحسي للأحداث، مما يجعلها قصة لا تُنسى.