قراءة أولية في القصة القصيرة جدّا “شـوق” للقاص محمد مباركي – د. رشيد سوسان

0
1028

 

الكاتب محمد مباركي قاص ومبدع من طينة خاصة، إنه قاص بروميثي شقّ لنفسه طريقاً خاصّة ومليئة بالشّيّق من السرد، والجيّد من الإبداع، وهو مكثر في إبداعاته السردية، ويمتلك قدرة فائقة على عملية السرد والحكي ونقل تجارب إنسانية مختلفة إلى القارئ، سواء كانت تجارب حاضرة وواقعية، أم كانت ماضية وتاريخية. وقد صدرت له أربع مجموعات قصصية هي: “وطن الخبز الأسود” عام 2010، و”الرقم المعلوم” سنة 2012، ومجموعة “ونطق الحذاء” سنة 2015، و”غيبوبة على منظر ساقط” 2015. إضافة إلى روايتين هما: “جدار” الصادرة عام 2011، و”رائحة التراب المبلل” 2014. وله أعمال سردية أخرى كثيرة تنتظر الطبع، وسيتعرفها القارئ لما سترى النور.

تعالج القصة المحللة موضوعاً هاما أسال مداداً كثيرا يتوزع بين جميع صنوف القول ومختلف أنواع الكلام، إنه موضوع الغربة الذي فرض نفسه على الفلاسفة والمفكرين والأدباء والفنانين. إلاّ أن ما يميز الغربة في قصة محمد مباركي “شوق” هو أنها من نوع خاص؛ ذلك بأنها تتعلق بغربة البطل مدة عشر سنوات في القطب الشمالي، حيث يطول النهار ستة أشهر، ويطول الليل مثلها! أيُّ غربة هذه؟ وما أقسى وقعها على من يعيشها ويكابدها؟

لعل قسوة هذه الغربة كانت سبباً مباشراً في اختيار القاص كلمة واحدة لتكون عنواناً مناسباً لقصته، وهي كلمة (شوق): هذه اللفظة الصغيرة ذات الأبعاد والدلالات الكبيرة على المستويات الذاتية، والاجتماعية، والإنسانية، والوجودية. وقد كان الكاتب موفقاً في اختيار العنوان نكرةً، لأن النكرة في الدلالة على المقاصد العظمى أدلّ، وهي في وصف الحالة النفسية المناسبة لسياق هذه القصة أبلغ. هكذا يكون عنوان قصة محمد مباركي قد حقق بحقّ أهم مواصفات التفوّق؛ ذلك بأنه عنوان جذّاب يجذب القارئ لتتبع الأحداث، كما أنه عنوان يلخص القصة ويختزلها، على الرغم من كونها قصة قصيرة جدّاً. وكأن سائلاً ما سأل: ما مصير بطل القصة الذي عاش هموم تلك الغربة وأوزارها بالقطب الشمالي؟ فقيل له في جواب جامع مانع: شوق. ما أروعه من عنوان! وما أدلّها من كلمة على المراد!

على مستوى الشخوص في القصة نجد البطل، والغمامة، والأهل، والملائكة. وسيتمّ التركيز هنا على توضيح معطيات خاصة بالطرفيْن الأول والأخير نظراً لضيق المقام، وأعني بهما البطل والملائكة. أما البطل فعليه مدار الحكي في القصة، والدليل الفنّيّ على ذلك العنوان وبداية القصة ونهايتها؛ فأما العنوان فيحيلنا على لفظ “شوق”، وهو شوق لم يعرف قيمته الحقيقية إلا البطل الذي كابد الغربة وقاومها مدة عشر سنوات في القطب الشمالي، وأما البداية والنهاية فهما معاً يشيران إلى البطل، لأن أول كلمة في البداية هي (ابتلعتني) وهي خاصة بالبطل لوجود ياء المتكلم التي تعود عليه، وآخر كلمة في النهاية (وطني)، وهي أيضاً خاصة بالبطل.

وأما الملائكة -بصفتها من شخوص القصة- فلم تتدخل في أحداث القصة إلاّ في النهاية، غير أن تدخّلها في الأحداث كان هامّاً جدّاً. أليست هي التي رسمت من الغيمة خريطة لوطن البطل؟ وهذا معناه أن حضور الملائكة في قصة محمد مباركي المحللة جاء لتعويض نقص الإنسان؛ ذلك بأن الإنسان (بطل القصة) قد عجز في تحقيق شيء يجعله ينسى الغربة وموجات آلامها المشتعلة (هيّجت عشرُ سنوات من التّغرّب الصبابةَ في قلبي إلى وطني)، أو القيام بشيء يخفف من لظى شوقه الشديد إلى بلده (يَمْثُل طيفُه أمامي كل حين شامخاً كالطّود العظيم). تدخلت الملائكة هنا- أمام عجز الإنسان ونقصه إذاً- لتقدّم حلاًّ يرضي البطل، إذ إنها لما سمعت بكاء البطل وتوسّله وهو يطلب من الغمامة أن تبلّغ سلامه إلى أهله، لم تظلّ مكتوفة الأيدي، بل تعاطفت معه في صورة رائعة حين رسمت من تلك الغيمة (المزنة الجميلة) خريطة لوطنه. هكذا عوّضت هذه المخلوقات النورانية (الملائكة) ذلك الضعف المريع في الإنسان، وجعلت البطل يرى أمامه واقعيّاً خريطة وطنه مؤذنةً بوصال قريب. ومن قبلُ كان لا يرى أمامه إلاّ طيف الوطن شامخاً كالطود العظيم نتيجة وطأة الغربة الشديدة.

يلفت انتباه قارئ القصة أيضاً – إضافة إلى ما تقدّم- مجموعة من الخصائص اللغويّة والتركيبية والفنّة أُوجِزها فيما يأتي:

أ- لغة الوصف: حاضرة بقوة في هذه القصة، وهي تزيد من اشتداد وقع الغربة، ذلك الوقع الثقيل الذي كابد أوزاره البطل أولاً وأخيراً. وقد ظهرت تجليات الوصف في القصة على مستوييْن: مستوى الصفات (الدائرة القطبية- رمادية اللون- صقيع أبديّ- شامخاً- الطود العظيم- طائر منتوف الجناحين- غمامة يتيمة سابحة- بِعينيْن دامِعتيْن- متوسِّلاً- المزنة الجميلة). والمستوى الثاني تمثّله جمل واصفة (حيث يطول النهار ستة أشهر، ويطول الليل مثلها- وتشرق شمس منتصف الليل وتغرب رمادية اللون- صقيع أبديّ لا يرحم- هيّجت عشرُ سنوات من التّغرّب الصبابةَ في قلبي إلى وطني- كنت مثل طائر منتوف الجناحين- تابعتها بِعينيْن دامِعتيْن- خاطبتها متوسّلاً- سمعت الملائكة توسّلي- رسمت من الغيمة خريطة لوطني). والملاحظ أن لغة الوصف هذه هيمنت على القصة بشكل واضح ممّا يجعلها ميزتها الأولى ومفتاح دلالاتها ومقاصدها.

ب- الاختزال والحذف: هما ميزتان جوهريّتان في قصة (شوق) لمحمد مباركي، وهما سبب غياب بعض التفاصيل التي قد يحتاج إليها القارئ، غير أن غياب هذه التفاصيل هو من أجود ما في هذه القصة من الخصائص والمقومات؛ فنحن لا نعلم مثلاً لماذا كانت غربة البطل تحديدا في القطب الشمالي؟ ولا نعرف ما سبب إقامة البطل بهذا القطب عشر سنوات!؟ … غيابات وفراغات كثيرة تجعل القارئ في حيرة، لكنها حيرة جميلة بكل تأكيد، لأنها ستدفعه إلى اقتراح افتراضات وتفسيرات ممكنة ليملأ تلك الفراغات والفجوات في القصة. وهذه العملية في حدّ ذاتها إبداع ثانٍ يحقّقه القارئ، وينضاف إلى الإبداع الأول الذي أنجزه باقتدار القاص محمد مباركي… وتأتي في نطاق هذه الغيابات والفجوات أيضاً مسألة عدم تحديد وطن البطل؛ ذلك بأننا لا نعرف ما وطنه ذاك الذي رسمته الملائكة في القصة. ولعل غياب ذكر الوطن هنا يخدم إلى حد ّ كبير مقصد القصة أكثر، ويطعّم دلالاتها وأبعادها المختلفة إنسانيّاً واجتماعيّا وكونيّاً. هكذا يخرج الوطن في القصة جغرافيّاً من الدائرة الضيّقة، وتصبح له دلالة أخرى أعمق وأوسع: إنه مطلق الوطن الذي يمثل للبطل المكابد كيانه ووجوده وانتماءه وإنسانيته.

ج- الحوار: تغيب خاصية الحوار في كثير من القصص التي تُدعى (القصيرة جدّاً)، لأن حجم هذه القصص المختزل لا يسمح غالباً بفتح أبواب للحوار… غير أن الحوار قد حضر في هذه القصة القصيرة جدّاً لمحمد مباركي، وذلك في شكل لقطة خاطفة لكنها كانت عظيمة الوقع؛ إذ إن التّحول الذي وقع في القصة كان بفضل الحوار، لأن الملائكة لم ترسم خريطة وطن البطل إلاّ بعد سماعها خطابه المتوسِل: (أيتها المزنة الجميلة، إذا مررتِ بسماء وطني، فأبلغي سلامي إلى أهلي).

أختم هذه المحاولة المتواضعة في تحليل قصة (شوق) لمحمد مباركي بالإشارة إلى مغزاها الذي يتلخّص أساساً في وصف مكابدات الإنسان المقهور في واقعه، والذي يحس بأنه مَقصوص الجناح، ومُكبّل الإرادة، لا حول له ولا قوة، في زمن هُمِّش فيه الإنسان وحُكم عليه بالغربة بين أهله وأحبابه، بل حُكم عليه بالاغتراب حتى في ذاته، فصار طائرا مقصوص الجناح، أو منتوف الجناحين بتعبير القصة المُحلّلة. ولعل استحضار القصة مكان القطب الشمالي بصقيعه الأبديّ، واستدعاء الحديث عن غربة البطل فيه عشر سنوات كاملة… كل ذلك جاء ليعبر القاص عن ذلك المغزى العظيم… إن البطل (الإنسان) منهار القوى، ومقصوص الجناح، فكيف سيقوى على الطيران حرّا طليقاً؟ قال الشاعر:

ويَقولُ عُصفورٌ نَقصُّ جناحَهُ

هيهاتَ أن يقْوى على الطّيرانِ

 

ملـحـق: نـص قصة “شوق” لمحمد مباركي:

“ابتلعتني دوّامةٌ وراء الدّائرة القطبية، حيث يطول النّهار ستّة أشهر، ويطول اللّيل مثلها، وتشرق شمس منتصف اللّيل وتغرب رمادية اللّون على صقيع أبدي لا يرحم. هيّجت عشر سنوات من التّغرّب الصّبابة في قلبي إلى وطني. يَمْثُلُ طيفه أمامي كلّ حين شامخا كالطّود العظيم. كنتُ مثل طائر منتوف الجناحين.

نظرتُ يوما إلى السّماء، فشاهدتُ غمامة يتيمة سابحة جنوبا. تابعتها بعينين دامعتين، وخاطبتها متوسّلا:

“أيّتها المزنةُ الجميلة، إذا مررت بسماء وطني، فأبلغي سلامي إلى أهلي”.

سمعت الملائكة توسّلي، ورسمت من الغيمة خريطة لوطني.”

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here