لسنا كما قد يتبين من العنوان في معركة اصطلاحية حامية الوطيس نريد من خلالها أن نحقق ثقلا مفاهيما مرتبطا بالدلالة و اللفظ و السياق والمعنى، فالقاعدة الفقهية تنص أنه “لا مشاحة في الاصطلاح” في تقصى هذا الواقع المضطرب حتى لا يُفضِي نقاشنا بعد الاتفاق على المعنى إلى مفسدة لغوية أو عرفية، أو شرعية أو اصطلاحية. فابن القيم قد جمع كل هذا بقوله: “والاصطلاحات لا مُشَاحَّة فيها إذا لم تتضمَّن مفسدة”. وهذا نأخذه بعين الاعتبار في عرضنا حول الاضطراب النفسي لمغاربة العالم ومسلمي المهجر والمسكوت عنه في المعاملات التي تتطلب مراجعة وجلسات لدور المسجد و لجن تسييره و الإمام ووظيفته و دوره و الإكراهات التي يعيشها و كيفية نشر لفقه إجرائي وظيفي ينزع الغل و الضغينة والفوضى والتشويش السيكولوجي في أخذ القرار بلين وإفهام وبإدراك الأمور الخفية بدليل لتحقيق السعادة الدنيوية و الأخروية ورعاية المصالح وتمكين الاستقرار والقضاء في أمور حياتية مرتبطة على سبيل المثال لا الحصر بالتربية والعلاقات الاجتماعية مع المختلِف والدفن في أرض غير إسلامية وصرف المال في الكسب واقتناء المسكن والزواج والرعاية الروحية في دور ترعاها المؤسسات الكنائسية.
كل هذا مرتبط بشكل عام وشمولي بفقه العبادات والمعاملات وفقه تدبير حاجيات الأسرة وفقه الحظر والإباحة حتى يحصل الفهم. نتذكر في هذا السياق قوم شعيب في سورة هود: “قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ”. ومن هنا يأتي دور الفقيه بالمعنى الكبير والمركب باعتبار أنّ وظيفته هي القيام بإفهام القول وبدور استنباط صورة تنظيمية كاملة لحياة الفرد والمجتمع في زمانه، في ضوء القرآن الكريم والسنّة الشريفة، بحيث تكون حياة الفرد والمجتمع في هذه الصورة حياة عصرية مطابقة ومتناغمة للشروط العصرية الصحيحة من جهة، وشرعية مطابقة لما أمر الله به في شريعته من جهة ثانية.
فانتفاء الفقه العملي الإجرائي الوظيفي يعني انحصار الإسلام بالماضي وعجزنا عن التواصل مع الزمن و متطلباته، وبالتالي انتفاء خلود الاسلام و صلاحيته. بهذا يضمن الفقه بهذا المعنى خلود الشريعة واستمرارها باستمرار الزمان ونخلق جسرا تواصليا مع الواقع المعيش وشريعتنا السمحاء.
وتجذر الإشارة في هذا المقال إلى ان المحافظة على الاصطلاح الشرعي المفهوم الدلالة و السلس و المرتبط بالواقع المعيش خصوصا لدى مسلمي المهجر ومغاربة العالم في ظل هذا التضارب والتشاحن رمزٌ على قوَّة تماسك الأمَّة ووحدتها، ودليلٌ على الوعي والثبات.
فمسلمو الشتات أو ما يطلق عليهم كذلك مسلمو المهجر ومنهم مغاربة العالم عامة والجيل الأول و الثاني و الثالث منهم خاصة يعيشون وِزْرَ السؤال المتعلق بماهية تواجدهم كمكلفين برسالة كونية في الوطن المُـحتضِن والمقنن لهذه الكونية بقوانين تدبيرية للحياة العامة بشكل قطري \ إقليمي ويستنبئون عن ” الحلال” و ” الحرام” في ثنائية اصطلاحية تقابلية بحثا عن السبيل الأقوم و المستقيم حسب منطق الآية في سورة الأنعام: “وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون”، لكي يجدوا سكنا روحيا لهم وللأجيال القادمة في ظل الرعاية والوصاية التي يفتقدنوها في مؤسسات وازنة لها مشروعية البث و الفصل و التوجيه و تقديم الاستشارة الفقهية. مسلمو المهجر ومنهم مغاربة العالم يتساءلون في مونولوج يومي عن مدى نجاعتهم في تنزيل ديباجات وأساليب منهجية تربوية إسلامية تتقاطع في هجر وتنافر أو تتماشى في تناغم مع نظم التربية النظامية التي يتلقاها فلذات أكبادهم في أحضان المؤسسات التربوية الأوربية ستمكنهم من خلال استضمارها والإيمان بها من الحفاظ على الثوابت وأصول الأسلاف والمرجعية الإسلامية واستثمارها أو توظيفها حين يتحقق الغياب: غياب هذه السلطة التربوية المتجلية في الوالدين، أحدهما أو كليهما أو المسجد. هذا الأخير الذي سأفرد لها مقالا خاصا حول دوره والتحديات التي تعترضه كمؤسسة تربوية وتكوينية للمسلم.
لقد تحول هذا التفكير في هذا الوزر لدى البعض من هذه الأسر والعائلات إلى الإحساس به كخطيئة وذنب وإثم خصوصا حين حدوث تصدعات أو شروخ أو سود تفاهم بين الأبناء والآباء و الأمهات . فيبقى المسكوت عنه مساحة سائدة تقرأ عنفها في العيون، جاثمة على الصدور في غياب مرافقين و مرافقات نفسيين و فقهاء و فقيهات مواكبين و مواكبات لهذه النفس و لهذا العقل اللذان يعيشان هذه المعاناة في صمت.
هذه الوضعية المرتبطة بالشعور بالذنب تظل متصلة ومقترنة بمسؤولية تدبير الفضاء الأسري النووي الضيق لتتعداه إلى ما هو أوسع والمرتبط بدورنا كأقلية متجانسة و “مؤتلفة” و “متناغمة” في انتمائها الديني داخل أكثرية غير متجانسة في الثقافة والدين والقيم بل “متضاربة” و تحتاج من أجل إثبات ذاتها إلى تدافع مستمر و صبر و أناة على تحمل الرفض و الإقصاء.
ولقد تحول هذا الحال إلى ثقل وجاثوم نهاري نفسي يضغط على الصدور والقلوب و العقول في غياب مرجعية مرافقة واضحة المسلك و الطريق لتجيب على تلك الأسئلة المحيرة من داخل فقه نفعي و عملي يربط و لا يقطع، يبشر و لا ينفر، يجمع و لا يشتت، فقه كما قال فيه ابن خلدون في مقدمته يعرف ب ” أحكام الله في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي مستقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة…” حيث “إذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها (فقه)”.
ففي هذا الصراع النفسي يبحث مسلمو المهجر عن قراءة استنباطية يقينية تحمل الاستدلال المقنع الذي لا يجعلهم يعيشون القطيعة مع محيطهم الأوربي.
إننا نعلم مدى عُسر هذه القراءة وهذا التصفح القلبي المرتبط بالإيمان والعقلي المرتبط بالمنطق لأنه مقترن في العملية الأولى لهذا الاستنباط بتحليل الكليات للوصول إلى الجزئيات وبتحليل هذه الأخيرة واستقصائها للوصول إلى الكليات في تواصل وارتباط وتشبيك علائقي.