تمكنت أخيرا من الالتحاق بغرفتي، كان الليل على وشك أن يترك مكانه لأشعة النهار الأولى، وضجيج حركة السيارات العنيفة بالدار البيضاء، ذلك الضحيج الذي يتسلق سلالم الهواء العالية ويستطيع أن يصل حتى حمى غرفتك ذات النجوم المعلقة على أبواب بنايتها.
أوشكت أن أضع رأسي على الوسادة البيضاء، التي وحدها تشابه لون داخلها بخارجها في هذا السوق الممتاز الكبير، كان بالنسبة لنا نحن الشعراء سوق عكاظ لم يلتفت أمناؤه إلى زادنا المعنوي ولم يعلقوا معلقاتنا على أستار محجته، فما كنا بالنسبة لهم إلا أرقاما اعتني بنقلها ومأكلها ومشربها، بل كان كل همهم هو ما جنوا من ورائها من ميزانيات بأرقام مضاعفة على ما استثمر فيها. حتى لكأنك تشعر أنك مجرد بضاعة مجزاة ترد إلى البلد الذي استوردت منه بعدما حققت لمستثمري محجة الرياض ما يغني أبناءهم وأحفادهم لأجيال عدة عن الكد والشقاء، فقط لأن آباءهم المعينين وغير المعينين بظواهر ملكية شريفة قد عرفوا كيف يستثمرون فيمن لم تأكلهم أسماك المتوسط، وعرفوا من أين تؤكل كتف ثقتهم بهم!
ما كدت أسدل الستارة على مسرحيات هذا اليوم التعيس وعلى كل سماسرته الطارئين على المشهد، حتى طرق أحدهم باب الغرفة بعنف، اضطررت إلى أن أفتح لأتبين طارق الغفلة وما وراءه. كان أحد موظفي الاستقبال يخبرني بضرورة إفراغ الغرفة والاستعداد لرحلة العودة إلى بلد إقامتي، اكتشفت أنه قد تم تقديم سفري بيوم على ما كان محددا في أوراق الدعوة، ولم تكن لدي رغبة في إزعاج أحدهم -ذكرا كان أو أنثى- لمعالجة الأمر وتصحيح الخطأ، كل ما حز في نفسي حينها هو عدم استطاعتي توديع أصدقائي من شعراء ومثقفين مقيمين بالمغرب، في حين اكتفيت بإخبار أصدقائي أعضاء الرابطة بمغادرتي الفورية عبر تطبيق الوتساب، على أمل اللقاء بهم في الدورة التالية من المقهى الأدبي الأوروعربي في بروكسل.
لم يتغير شيء في سلوك ومعاملة موظفي استقبال الفندق، فقد اختلقوا ألف سبب وسبب لتأخيري عن سائق الليموزين الذي أخذ ينفخ بأوداجه كتيس جبلي، كان هو نفسه من استقبلني أول مجيئي، بأسلوب سياقته نفسه وحديثه في الهاتف النقال نفسه، وقصص نجاحه كسائق ليموزين يشتغل مع شركة كبرى لا تتعامل إلا مع الأوروبيين والأمريكان “الأصليين” نفسها.
لم أفهم يوما سبب هذه العقد التي يتقيؤ غيظها أمثاله أمام المغاربة خارج الحدود، غير أن ما تعلمته من سنين غربتي هو أن أترك كل ذي إحساس بنقص أن يستعرض نقصه أمامي وإن حاول أن يغلفه بصفة كاذبة ما أو تميز ما.
أغلقت حواس شعوري عنه مثلما أغلقته عن كل موظفي هذا المجلس الغريب من أسفل السلم حتى أمينه العام، وأغمضت عيني قليلا لأستعيد بعض الجهد الذي سيمكنني من القيام بكل إجراءات مطار محمد الخامس الدولي، لم أفتحهما إلا على ضجيج جلبة المسافرين في المرآب أمام مدخل صالة المسافرين.
أخذت حقيبتي الصغيرة الحجم ودخلت مع الداخلين، أحاول أن أفني آخر دقائق تبقت من اشتراك هاتفي في الاتصال ببعض الأهل والأصدقاء الذين أعرف عنهم طبع الاستيقاظ الباكر.
إحساس غريب انتابني وأنا فوق أجنحة الطائرة التي تتوجه بي نحو مطار بروكسل، لم يعد نفسه الإحساس الأول الذي رافقني إلى الغربة، كان مختلفا هذه المرة، كان انسلاخا من الغربة، كان عودة إلى الوطن، وطن الإنسان، وطن احترام كفاءاته وقدراته ومواهبه، وطن المؤسسات الحقيقية، وطن الحقوق والواجبات، وطن الشعر.