فاز السرطان _ قصة قصيرة _
كانت السيدة عائشة أرملة في الأربعين من عمرها، أم لخمسة أطفال؛ ولدين وثلاث بنات، تعيش في بيت صغير مكون من مطبخ وغرفة وحمام، حسب ما يسمح لها وضعها المادي المتأزم، خاصة بعد وفاة زوجها معيلهم الوحيد. وبالرغم من هذا فقد كانت أما مؤمنة مكافحة، لم يجد اليأس من رحمة الله إليها سبيلا بعد قضاء الله وحكمه، بل كان إيمانها به متينا.
كانت تشتغل خادمة في البيوت، وتارة منظفة في المستشفيات والمطاعم وغيرها، رغم كل هذه المصاعب لم تكترث لأي من هذه المعاناة، لأن همها الوحيد رؤية أبنائها في درب النجاح سائرين، جاهدة ألا يمروا من نفس تجربتها، رغم أن مجهوداتها لا تجعلها في منأى من أن تقضي وعائلتها ليالي بمعدة فارغة، ومرة على بقايا الطعام الذي يجود به عليهم الجيران.
إلى أن جاء يوم ومرضت مرضا شديدا دخلت على إثره للمستشفى، وبمجرد أن قام الطبيب بالفحوصات اللازمة وجدها تعاني من مرض السرطان في مراحله الأخيرة، إذاك طلب من ابنتها الكبرى رقية والتي تبلغ من العمر ست عشرة سنة أن تسدد فاتورة المشفى لإبقاء أمها لتلقي العلاج اللازم. فبكت الابنة وقالت:
ـ نحن لا نجد ما نأكله، فكيف لنا أن نسدد الفاتورة؟
سمعها أحد المارة فتوجه لمكتب الاستقبال ودفع الفاتورة، ثم ذهب صوب الفتاة وطمأنها أنه قد دفع الفاتورة، وسيتكلف بجميع مصاريف العلاج.
بدأت السيدة عائشة في الخضوع للعلاج الكيماوي، فكانت في كل مرة تنزل دمعة من عيني الفتاة لرؤيتها لأمها وهي تتألم.
وبينما كانت الأم في أحد الأيام تتأهب لخوض حصة علاجية، لاحظت دمعة ابنتها الكبرى وهي تناجي الخالق:
يا رب، لم هذا البلاء يا رب؟
ردت الأم عليها بصوت محتضر: الله يختبرنا ليقيس مدى صبرنا في الحياة، واعلمي يا بنيتي أن هذه الحياة عبارة عن سلسلة من مصاعب نهايتها كما قال سبحانه: “إن مع العسر يسرا” .
ردت رقية : ولكن يا أمي لماذا نحن بالضبط؟
قالت عائشة وصوتها مبحوح : يا رقية المرض نصيب، والعلاج قرار، ورغم كل ما يقوله الطبيب فإني سأظل أصارع حتى آخر رمش يسقط من عيني، وسأقول لك شيئا لأني لا أعرف متى تصعد روحي للسماء، كوني من تكوني ولا تدعي أحدا يغيرك، أو يعلمك عكس ما علمتك إياه، فاليوم تمشين وغدا مدفونة، وقبل أن تفعلي أي شيء أو تقدمي على قرار يغير حياتك، أمعني التفكير في قوله تعالى: “يا ليتني قدمت لحياتي”.
معك حق يا أماه، ولكن هذه الحياة غير عادلة وتسرق منا أغلى ما نملك.
جيد أنك ذكرت السرقة يا رقية، إن أجمل سرقة هي سرقة القلوب بطبيب الأخلاق، فالفراشة رغم جمالها حشرة، والصبار رغم قسوته زهرة، وتذكري دائما أن أصلنا من طين، ومرقدنا تحت الأرض “حفرة”.
فبكت الطفلة بكاء شديدا، ثم قالت: إن أنت رحلت فسأبقى وحيدة في هذه الدنيا..