وما الحياة إلا دورة باهتة اللون، لأشخاص قد يعيشون معنا في الذاكرة، أو أناس يكونون أبطالا في مخيلتنا التي تخزنها طوال الأعوام والسنين..
هذا التقديم ليس ضروريا عزيزي القارئ بحجم مأساة صاحب العجلة الهوائية السيد جاري المحترم جدا.. والذي عشنا أو عاش بحينا.. عاش سنينا عجافا يابسات لا قطوف فيها ولا ياسمين ولا أحلام.. عاش بلا أحلام.. ولا آمال تحققت.. عاش وفقط..
عاش ليملأ الحكاية، ليملأ دورة الحياة كعجلة دراجته.. التي تهوى الدوران.. الدوران..
حكاية كائن، إنسان.. منذ أن فتحت عيني في تلك البقجة الصغيرة من جغرافية الهامش في أقصى الأرض.. وأنا أراه كما يراه غيري ربما أو لا يراه أحد من العابرين في الزحام والصراخ واللغو.. أراه في الصباح الباكر والناس ترحل وتغادر أوكارها للبحث عن قوت يومها.. يرحلون إلى أعمالهم اليومية وصراعاتهم مع الزمن الموبوء المرير المدقع فقرا ولقمة العيش العفنة.. أو يرحلون لنفاقهم الأزلي في الحياة القاسية..
أراه يرحل كما تراه بعض النسوة وهن يودعن أطفالهن أو أزواجهن.. قد يختلسن النظر إليه أو لا يعرنه أي اهتمام، لا يعني لها أي شيء، إلا أنه صاحب الدراجة التي تحدث ذاك الصوت المزعج لانعدام أو قلة إصلاحها..
وأنا كنت حينها ذاك الصغير جدا بدوري أرحل إلى مدرستي الحلوة جدا جدا.. لأتعلم أن من زرع حصد ومن جد وجد، وقصة الصرار والنملة.. في تلك البناية القديمة الكئيبة.. لنتعلم كلمات لأناس لا نعرفهم ولن يعرفوننا..
وأنا ذاهب ككل الصباحات أراه من باب بيته القديم الذي ورثه عن أبيه، وقبل أن يمتطي دراجته الهوائية التي أهداها له ابن عمته المهاجر بألمانيا ذات صيف بطلب من عمته ولحاجته الملحة إليها..
كان عمره آنذاك في بحر الشباب، قوي البنية في عز رجولته بشعر أسود كثيف أشعث، وعضلات قوية كثور لعبة الكوريدا أو عضلات حصان أصيل.. وبشارب قوي أسود يتوسط وجهه الكئيب دوما..
كل صباح، أراقبه يقفز على دراجته وقبل أن يهم في السير تناديه عروسه، الفارعة الطول، بشعرها الطويل الممشوط بعناية.. والتي كان جارنا صاحب الدكان البئيس المظلم من الداخل وكأنه دهليز.. كان يبيع الخبز والنعناع والبيض، وبعض العطور لطرد الجن والأرواح الشريرة، وأعشاب تقتنيها بعض العجائز للتداوي من أمراض الكحة والروماتيزم.. كان صاحب الدكان العفريت كما كنا نحن الأطفال نلقبه، لأنه يخرج من عمق الظلام لما نريد أن نشتري أي شيء من عنده.. كان العفريت يراودها فتصده، وذات مرة ضربته ضربا مبرحا.. فأصبح يهابها ابن الكلب، كما ضربناه نحن الصغار بالحجارة والنعال..
صدته لأنها تعشق حليلها ذي الشارب القوي والعضلات القوية..
تناديه لتمده برزمة أو صريرة مغلوقة بعناية، بداخلها وضعت رغيف خبز وبيض مسلوق وما تيسر من الزيتون الأسود المطمر بالبيت كما كانت العادة عند النسوة قديما، يطمرن الزيتون بعد قطعه ووضعه في الماء المالح.. ويعجن الخبز ويغمقن الحارة بعبق البن المدقوق المخلوط ببعض التوابل..
كنت كل صباح أراقبه وهو يمتطي عجلته سبعمئة، هكذا كنا نسميها.. وبسرعة البرق يختفي عن الأنظار.. عن الأنظار يختفي.. ومع مرور الأيام والسنين بدأت أراه كالعادة حتى بدا لي ركنا يؤثث حياة الحارة والمعيش اليومي لنا، بنفس الصورة.. نفس الدراجة، نفس البذلة الرمادية، نفس السروال الأزرق.. يذهب إلى مكان عمله هناك بعيدا في الإقطاعية المزرعة، وهي في ملك أحد الملاكين المتنفذين..
كل صباح يغدو.. أراه وأنا أكبر سنة بعد سنة وأنتقل من فصل دراسي إلى آخر، أتحول من طفل صغير إلى طفل أكبر.. ومع الأيام وبمرورها مسرعة هو الآخر يتحول من شاب إلى رجل أكبر.. ويلد ابنه الأول والثاني.. والثالث..
وما يزال كل صباح يغيب عن الحي بدراجته، يغيب عنا.. لا عطلة ولا مرض.. لا ترى على شفتيه ابتسامة ولا فرحة.. كان خلوقا، لا يتحدث كثيرا إلى الناس..
هكذا تمر حياته أمامي كأنها أسطوانة شريط بالأبيض والأسود يعود مساء منهكا.. ونحن في الشارع نلعب، نراه قادما فنفسح له الطريق ليعبر في وقار، يلج بيته ويغيب مع دورة الزمن.. بذلته الرمادية التي مع الوقت فقدت لونها الناصع فمالت إلى البياض، وكأن سرعة دراجته مع الريح نزعت لون بذلته.. ودراجته فقدت بريقها الألماني وطالها الصدأ من كل جانب..
تقوس ظهره كشيخ شاخت أيامه المتشابهة.. البكر من أبنائه غالبا ما ينتظر عودته قرب باب الدار، فلما يراه من بعيد يسرع في استقباله ليتلقف منه قفته بفرح طفولي، يتعانقا ويغيبا..
وبعد غياب عن المدينة الصغيرة لبضع سنين، عدت كما يعود بعض البشر إلى مدنهم.. وأنا أزور زقاقنا الصغير الذي كبرنا فيه، أرى شيخا هرما يرتكن زاوية المنزل على كرسي خشبي وهو شبه نائم، محني الرأس وأشعة الشمس تضيء شعيرات رأسه الرمادية اللون، إنه جاري العم صاحب العجلة، حارس المزرعة، بعل الجميلة، صاحب قفة الدوم، الطموح المجتهد في استيقاظه باكرا مع صياح الديك، الزاهد في الدنيا، العائد مساء منهك الجسد.. وأنا أتأمل وجهه المليء بالتجاعيد والنتوءات.. أسمع رنين جرس دراجة تعبر الزقاق، وإذا بشاب قوي العضلات كثور الكوريدا، وشعر أسود غزير.. يقف بقربنا ليلقي التحية على الشيخ.. ببذلة رمادية أيضا وقفة دوم وسروال أزرق.. يوقظ أباه من النوم ليدخله إلى البيت.. لينام منهكا، كما كان والده ينام.. لتستمر دورة الحياة اللعينة.