Home Slider site قراءة في رواية “في شراك أحمد بخيت” للشاعر أحمد حضراوي – جميلة...
“في شراك أحمد بخيت”، رواية يحكي فيها الشاعر والروائي المغربي أحمد حضراوي معاناته مع الشاعر المصري أحمد بخيت ومع طموحه هو نفسه كشاعر في بداية مشواره، في أن يذيع صيته وتصبح له مكانة أدبية مرموقة.
وللرواية الفضل في كونها تؤرخ عن وعي أو عن غير وعي لمحطة ثورية تاريخية من محطات مصر، ألا وهي ثورة 25 يناير وما تمخض عنها بعد ذلك من ثورات مليونية في مصر وفي العالم العربي بأسره.
ولعل معاناة الشاعر أحمد حضراوي تختزل في كونه إنسانا قبل أن يكون شاعرا أو بالأحرى في كونه ذلك الشاعر الإنسان الذي ينبغي أن يكون.
فبالرغم من إساءة الآخرين له، يبقى الشاعر كاتما لغيظه، صبورا ومتسما بأعلى درجات الرقي والإنسانية. لقد أساءت له الشاعرة “ن.ي” كثيرا وأخلفت وعدها له بالتوسط له في نشر ديوان له كما وعدته، بل وأكثر من ذلك تحدثت عنه بسوء في الوسط الأدبي في مصر، ورغم ذلك لم يقابلها بالمثل ولم يحاسبها على أفعالها عندما سنحت له الفرصة، بل صرح قائلا :”لا أحب أن ألعب أبدا دور الشرير أمام ضحية خاصة إذا كانت أنثى”. وكان أحمد بخيت قد استنزف أمواله وأعصابه ومشاعره منذ زمن، ولم يستطع وهو في أشد درجات اغتياظه منه إلا أن يخاطبه بشيء من العفوية والسخرية الداخلية الخجولة: “يا أبو حميد.. “متجاوزا بذلك الألقاب.. ولم يواجهه في آخر المطاف بحقيقة نصبه عليه إلا بكثير من الأدب واللياقة حين قال له أخيرا: أحمد بخيت، شعر في السماء وأخلاق في الأرض، بل وأسفل سافلين.
وطوال سرد حكايته مع أحمد بخيت، ظل شاعرنا متمسكا بهدوء أعصاب لا نظير له، ولم يكن لتفوته وهو المثقف غير العادي، معالم مصر الحضارية القديمة منها والحديثة.. ولم يستطع شاعرنا ذو الأحاسيس المرهفة أن يذكر ميدان التحرير إلا بنوع من التبجيل والألفة التي أصبحت تربطه به في كل مرة يمر بجانبه.. ولقد كان صعوده إحدى منابر الثورة في ميدان التحرير وإلقاء قصيدة “الفرعون الأخير” بمثابة ملحمة وتجربة شعرية وثورية في نفس الوقت، قد يحسده عليها الكثيرون، وقد يتمنى كل عربي بل وكل إنسان غيور على حرية الشعوب أن يجربها مثله. ولقد كانت هذه التجربة وحدها في قاهرة المعز كما يحلو للكاتب أن يسميها، كفيلة بأن تنسيه كل ما سرق منه من أموال وأحلام..
بعد أكثر من سنتين من الوعود والأكاذيب والاستخفاف بشاعرنا الكبير، لم ينشر له أحمد بخيت ديوانه “قصائد في زمن الثورة”، هذا الديوان الشعري الذي يعد ملحمة بكل المقاييس، فهو يتحدث عن مرحلة هامة وحاسمة في مسار الشعوب العربية والإسلامية أيضا.. بل وأكثر من ذلك لم يفِ بأي وعد من الوعود التي قطعها على نفسه تجاه الشاعر أحمد حضراوي، من مشاركته في الجريدة وفي دار النشر والتوزيع، إلى غير ذلك من الوعود الزائفة. وكل ما فعله أحمد بخيت هو السطو على أموال الشاعر الذي أتى من أوروبا بلد المهجر، يحمل هموما أكثر من طاقته، آملا أن تفتح له مصر “أرض الأحلام” كما يسميها ذراعيها لتحتضنه في شوق وتجعله يحس بانتمائه لوطن عربي كبير، وهي التي احتضنت شعراء وأدباء قبله..
في كل رحلة من رحلاته إلى مصر، كان الكاتب الشاعر يصف أدق تفاصيل الأمكنة والأشخاص الذين قابلهم، غير مهمل للغتهم أيضا وهي اللغة التي يتقنها كثير من العرب، لأنها لغة الأفلام العربية التي شاهدناها واستمتعنا بها يوم لم يكن في ساحة التمثيل تقريبا غير المصريين..
ولقد مثلت مصر بالنسبة للشاعر ذلك الوطن الأم الثاني الذي يمكن أن يعيش ويستقر فيه هو وعائلته كما كان قد وعده أحمد بخيت، آملا بذلك أن يحقق كل أحلامه وأن يحصل أخيرا على هويته العربية القومية.. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن الكاتب الشاعر لا يتحدث في روايته إلا نادرا، عن بروكسل المدينة الأوربية التي يستقر فيها، فهو لا يذكر منها إلا الروتين اليومي لساعات الذهاب والإياب عبر وسائل النقل المختلفة.. ومداهمة الوقت له وانحصاره فيه أيما انحصار.. يتحدث عنها ببرود تام عكس القاهرة التي لا يذكرها إلا بحماس شديد..
وأخيرا تنتهي الرواية على وقع موسيقى بعض من أشعار الكاتب الشاعر أحمد حضراوي والتي يهجو فيها أحمد بخيت بعدما جرب معه، بدون جدوى، كل وسائل الحوار والتحضر نختار منها الأبيات التالية:
لمثلي تخلق الكلمات، مثلك تخلق الأحداقْ
لمثلي الكبرياء أنا، لمثلك أرذل الأخلاقْ
لمثلي نسمة وصبا، وأنت الكير في الأعماقْ
ويقول أيضا:
أنا وطن العقيدة في منافي الحبر والقرطاسْ
أنا نزف الجراح وبوح شلال من الإحساسْ
أنا قاموس أحزان وطلسم معجم الأنفاسْ
ويمكن تلخيص تجربة ومعاناة الشاعر أحمد حضراوي مع أحمد بخيت في البيت الشعري التالي:
“لماذا ليس في الإنسان ما يكفي من الإنسان؟” والذي يدعي بخيت أنه من أشعاره، والمرجح أن البيت يحتمل أن يكون سرقة أدبية وأخلاقية في الوقت نفسه، فكيف يمكن لشاعر بتلك الأخلاق المنحطة أن يصدر عنه مثل هذا البيت من الشعر؟ وإذا فرضنا أنه صدر عنه سهوا أو نفاقا فإنه يجد جواب سؤاله في تصرفاته هو نفسه وفي انحدار إنسانيته وجريه وراء المال والطمع.. وكأنما طرح أحمد بخيت السؤال الذي يحتويه البيت الشعري لا ليستنكره بل ليستفيد من الجواب عليه ويغنم الغنائم..
وعلى كل حال يبقى البيت الشعري حاملا لسؤال فلسفي عميق يعبر عن إنسانية الشاعر الحقيقي وعن كونه إنسانا يسمو بخلقه وطباعه قبل أن يسمو بأشعاره …عكس أحمد بخيت الذي يدعي في قصائده أنه يكره الظلم ويصارعه ولكنه في الواقع يسانده ويخدمه.
وفي النهاية ،يعزي الشاعر أحمد حضراوي نفسه ببقاء كلماته الشعرية إلى جانبه وهي التي تسعفه في أشد لحظات الحزن واليأس ،مثبتا مرة أخرى أن الشعر لا يمكن أن يكون إلا وليد الصدمات والمعاناة :
ستعلم أيها المسكين ما أجهضته قسمات
ستعلم أنما الأشعار نبذة سيرة الصدمات
هنا قلب يئن …يموت لكن يبعث الكلمات
ويكفي شاعرنا فخرا أنه نظم أشعارا وقصائد في زمن الثورة، قصائد تؤرخ للربيع العربي وتخلد ثورات مليونية أثارت غضب أمريكا وغضب الرؤساء والملوك.. لكنها في الوقت نفسه أظهرت قوة الشعوب وقدرتها على التحرر إن هي أصرت على ذلك، وأوضحت للعالم بأسره أن الشعوب العربية ليست بذلك التخلف والهمجية التي طالما حاول حاكموها أن يظهروها بها..
ولعل الأبيات التالية من ديوان “قصائد في زمن الثورة” المقتطفة من قصيدة “الملك الحزين في اليمن السعيد”، كفيلة بأن تصف مكر الحكام وكيدهم لشعوبهم من جهة، وتصف كذلك بكثير من السخرية وعي الشعوب بمقالب الحكام.. وهو الوعي الذي تساهم فيه كذلك نخبة المثقفين والأدباء في العالم العربي، الحاملين منهم لقضايا وهموم شعوبهم، ومن بينهم الشاعر أحمد حضراوي:
أأقحم شعبي..
وأنتم شعوبكم تقحمون
بما قد حللنا وما قد عقدنا
وإن الشعوب كما قد رأيتم
إذا دخلوا في السياسة
هم يفسدون!
لقد خذلونا فما ينفعون
سأجعلهم شيعا في الشمال
وأمثالهم في الجنوب
وأذبح ثوارهم
وسأنزع من ساحتهم كل رسم
وأترك في جلدهم كل وشم
وأغرقهم في بحور الدماء
وأنثرهم مثل قطر شتاء
ووحدي أنا من سيبقى..
سألقي عليهم عصاي
وما ضرني أن أكون أنا
آخر الرؤساء!
ألا فاشهدوا عزتي
واشهدوا للشعوب بكل بلاء !
وعزة كل رئيس
وعزة كل أمير
وعزة كل مليك..
ألا إننا..
والذين هم معنا الغالبون!