ضياع __ ذ. رشيد بلفقيه

0
315

ضياع – قصة قصيرة –

  لا أذكر متى انتبهت إلى أنني شخص فاقد للذاكرة، أو بالأحرى متى وعيت أن خللا ما يربطني بالماضي، ماضي الخاص أو الماضي العام لا فرق،فهذا من ذاك، وهما مني…
عندما غادرت المحطة، وعيت في لحظة من تلك اللحظات النادرة التي كنت أتوب فيها إلى رشدي إلى أنني تركت حقيبتي في مكان ما بالداخل، عدت أدراجي إلى الحافلة، كان الكريسون* لا يزال يدخن وهو يثرثر مع بعض المسافرين، سألته بأدب جم عن الحقيبة التي …
نظر إلي بارتياب و دقق في ملامحي، قبل أن يقلب كفيه ويسألني :
-عن أي حقيبة تتحدث يا أستاذ؟
-ألم تكن في الحافلة التي جاءت بي؟ ألم تتسلم حقائب الجميع؟
-مقبولة منك يا أستاذ، قالها و غمز من كانوا برفقته وانفجروا ضاحكين.
تفاديا لتطور الموضوع إلى أكثر من سوء الفهم، ودفعا لأي إحراج ممكن تراجعت خطوات إلى الوراء معتذرا، ثم استدرت مبتعدا عنهم وصوت الضحكات يعلو ويعلو ويحط على قفاي العاري صفعة تلو الصفعة ليجعله يحمر أو ليزيده احمرارا.
هل كان هذا الشخص في تلك الحافلة؟ هل كان هو من تسلم الحقائب؟ هو أجل، هو أذكره جيدا. لكن مهلا الآخر كان يرتدي جاكيط أزرق وهذا كان يلبس… ماذا كان يرتدي؟ آاااااخ! لقد نسيت …
أين الحافلة التي جاءت بي الآن، أهي تلك البيضاء المخططة بالأزرق الرابضة في طرف المحطة أم الزرقاء المخططة بالأبيض التي تستعد لمغادرتها؟ لا أذكر بالضبط، لكنني متيقن من أنني جئت إلى هنا بحافلة ما قبل أقل من …. من كذا يوم…
تلاشت المدة الزمنية من ذاكرتي هكذا في لحظات، قبل قليل كان كل شيء واضحا، الآن فقدت حلقة أخرى من حلقات واقعي.
-من ساعة ربما؟
-لا أذكر ربما أقل ربما أكثر.
-لا بد أن تحدد لي بالضبط حتى أساعدك.
-بالضبط … بالضبط، متى كان هذا ممكنا؟
-….
-تعرف أننا نعيش بلا وجهة حقيقة منذ أن أنزل والدنا من هناك، وأشرت إلى السماء.
-أي والد تعني؟ تطلع إلي محدثي بريبة وهو يطأ عقب سيجارته ليكتم آخر أنفاسه ويسحقه سحقا على الأرض.
-آدم، ألا تفهم …
-آه! آدم، أنا أسألك عن ذكرى منذ ساعة خلت كما تدعي، وأنت تخبرني عن بداية الخلق؟ لا يبدو أننا سنتفاهم.
-نتفاهم على ماذا؟
-عن الطفلة الذي تسأل عنها.
-طفلة؟ عن أية طفلة تتحدث؟
– يا فتاح يا عليم…
-فعلا لست أذكر عن أية طفلة تتحدث ومن سأل عن الأطفال؟ أنا لا أملك أطفالا، لأنني لست متزوجا، لكنني أحب الأطفال، أجل أحبهم ومن لا يحب الأطفال.
-…
-أنت تحب الأطفال؟
-طبعا … من يكرههم؟
-شفتي؟ أخيرا اتفقنا… وربما الآن فقط يمكن أن ترشدني إلى الحافلة التي دخلت المحطة قبل ساعة.
-اعذرني لا أستطيع مساعدتك اسأل غيري فقد تجد عنده الرد والوقت والأعصاب.
رأسي يلف في الفراغ بشدة، يلف و يلف، و دوران تلك الأسئلة التي لم تجد حدودا تضبطها يزداد بشكل مخيف، رأسي يكاد ينفجر، ضحكات تتعالى وأصوات المحركات وصراخ الكورتية، ثم ظلام …
يد تمتد لوجهي، تعبث به بلا حياء أو خجل، روائح نفاذة تنبعث قريبة من أنفي، الضوء أيضا يعود شيئا فشيئا، أستعيد وعيي … هل أغمي علي؟ لا أكاد أجزم… من أنا؟ ماذا أفعل هنا؟ ماذا يجري حولي؟ من هم كل هؤلاء الأشخاص؟
ألم شديد يغزو جسدي، رجلاي لا تحملانني ولا أقدر على التركيز على الوجوه، لكن كل شيء يعود لوضعه الطبيعي شيئا فشيئا، وأتبين من حولي، ينفض الناس وأعود وحيدا، لماذا كانوا يقفون حولي؟ رجاء جوابا واحدا، واحدا، فقط يبلل هذا الظمأ العميق للأجوبة، من أنا ماذا أفعل هنا من أين أتيت وإلى أين أمضي، ماهي وجهتي؟ أ جئت إلى هنا بوجهة محددة أم رافقني هذا الضياع من البداية؟
يمد لي شخص لا أعرفه خبزا وعلبة حليب، هل طلبت شيئا من أحد؟ لا أذكر أنني فعلت، لماذا يقدمون لي الخبز والحليب إذن، قبل أن تكتمل الجملة في رأسي يكون الشخص قد وضع صدقته أمامي لما لاحظ وجومي، وابتعد.
أحاول أن أرفع صوتي طالبا الشرح والتوضيح بلاجدوى، صوتي يخونني ولا يخرج بالقوة التي أريد .
من أنا ماذا أفعل في هذه القصة؟ رجاء فليرحمني أحد من هذا الضياع…
رجاء يا كاتب هذه المتاهة لا تضع قلمك قبل أن تنهي هذا العبث، اصنع لي خارطة وأرضا قبل أن تمضي … امنحني ذاكرة رجاء…
————————————-
*كريسون: مساعد السائق.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here