تباريح الشوق __ ذ. نعيم الباكستاني

0
191

“تباريح الشوق” :

   آه -يا أخي- شربتَ كأس الشهادة .. ونلتَ السعادة أيّما السعادة ..
آه ارتحلتَ إلى مثواك .. وتواريتَ عن أنظارنا التي تشتاق لرؤياك ..
آه مرت ستة شهور .. ولا زلنا نتخيل أن وفاتك مجرّد حلم وأنك على قيد الحياة .. نتذكرك فنبتسم مرة ونبكي ألف مرة ..
آه قد تركتنا نتململ في فراقك تململَ السّليم، ونتأوّه تأوّهَ المُدنف السّقيم ..
يا من تبوأ مقعده في جنان الخلد ..
أنظر إلى أمك وهي تطفئ نيران ذكرك بدموعها .. تبيت ليلة وهي تسامر النجوم وتعالج بُرَحاء الهموم .. تساقطت نفسها غما وأسفا .. وتقطعت أحشاؤها حزنا ولهفا .. كلما طرق طارقٌ تظنّ أنك قد عُدتَ .. كلما سمعت صوتا تظنّ أنّ مناديا ينادي ويبشرّها بك .. وكلما سمعتْ خفق النعل سعتْ نحو الباب، وإذا لم تجدك عاد رجاؤها خائبا، وانكسر فؤادها انكسار الزجاج إذا انفلت من اليد .. ثم تلملم هممها وتُمنّي نفسها، وما بيدها إلا الانتظار فلعله يستمر إلى طول العمر .. يا من يشرب من معين الجنة وتسنيمها ..
أنظر إلى إخوتك وأخواتك تجود أعينهم ويبكون بأربعة آماق على فقدك، ويلتمسونك في غابر الزمان .. أما ابناك الصغيران وبنتك الصغيرة فلا تسأل عن أحوالهم، فقد غلب الحزن على فرحهم، وساد اليأس على آمالهم، وغاب عنهم رؤيتك التي كانت تفرّج همومهم، وزال عنهم ظلّك الذي يظلّهم في حرارة الدهر المُحرقة ..
آه فراقك خلّف وراءه عَبرات لا تجفّ وآهات لا تنتهي.. منذ كُوينا بمِيسم فراقك، أُصيبت قلوبنا بجراحات وكلوم لا تلتئم أبدا ..
أرثيك يا أخي كما رثا متمم بن نويرة أخاه مالكا بعد وفاته، بلسان تكسوه نبرة الحزن والأسى :

لَعَمْرِي وما دَهْرِي بتأْبِينِ هَالِكٍ
ولا جَزَعٍ مِمَّا أَصَابَ فأَوْجَعَا

لقد كَفَّنَ المِنْهَالُ تَحْتَ رِدَائهِ
فَتًى غيرَ مِبْطَانِ العَشِيَّاتِ أَرْوَعَا

ولا بَرَماً تُهْدِي النِّسَاءُ لعِرْسهِ
إِذَا القَشْعُ مِنْ حَسِّ الشِّتَاءِ تَقَعْقَعَا

لَبِيبٌ أَعَانَ اللُّبَّ منهُ سَمَاحَةٌ
خَصِيبٌ إِذَا ما رَاكِبُ الجَدْبِ أَوْضَعا

تَرَاه كَصدْرِ السَّيْفِ يَهْتَزُّ لِلنَّدَى
إِذَا لم تَجِدْ عِندَ امرئِ السَّوْءِ مَطْمَعَا

وإِنْ تَلْقَهُ في الشَّرْبِ لا تَلق فاحِشا
على الكأْسِ ذَا قاذُورَةٍ مُتزَبِّعَا

وإِنْ ضَرَّسَ الغَزْوُ الرِّجالَ رأَيْتَهُ
أَخا الْحَرْبِ صَدْقاً في اللِّقاءِ سَمَيْدَعَا

فَعَيْنيَّ هلاَّ تَبْكِيانِ لِمَالِكٍ
إِذَا أَذْرَتِ الرِّيحُ الكَنِيفَ المُرَفَّعَا

وللشَّرْبِ فَابْكِي مالِكاً ولِبُهْمَةٍ
شديدٍ نَوَاحِيهِ على مَنْ تَشَجَّعا

أَبَى الصَّبْرَ آياتٌ أَرَاها وأَنَّنِي
أَرَى كُلَّ حَبْلٍ بَعْدَ حَبْلِكَ أَقْطَعَا

وأَنِّي متى ما أَدعُ باسْمِكَ لا تُجِبْ
وكُنْتَ جدِيراً أَنْ تُجيبَ وَتُسْمِعَا

وعِشْنا بِخَيْرٍ في الحياةِ وقَبْلَنَا
أَصَابَ المَنَايَا رَهطَ كِسْرَى وتُبَّعَا

وكُنّا كَنَدْمَانَيْ جَذيمةَ حِقبةً
من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا

فلمَّا تَفَرَّقْنَا كأَنِّي ومَالِكاً
لِطُولِ اجْتِماعِ لم نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا

سَقَى اللهُ أَرضاً حَلَّهَا قَبْرُ مالِكٍ
ذِهَابَ الغَوَادِي المُدْجِناتِ فَأَمْرَعَا

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here