حاولت والدتي بكل ما أوتيت من قوى أن تسعدني، تحرص على أن توفر لي أسباب الحياة حتى لا أحس بفرق بيني وبين زميلاتي المراهقات، لكن رغم الفوارق والمعاناة ظللت كتوما، أحاول قدر الإمكان أن أجتهد حتى أجتاز امتحان الباكالوريا بامتياز حتى أحقق أمنية أمي في الحصول على منحة للدراسة العليا. غير أن رياحا أقوى من إرادتي تجري بما يحول دون ذلك، لا أكاد أفتح كتابا حتى أجد ذهني قد التحق بعوالم لا أعود منها إلا منهكة، أغلق الكتاب وأسرح من جديد: كيف يعيش أخي في قصر وتبدو عليه آثار النعمة وأعيش أنا مع والدتي التي تنفق من كسبها القليل على جديّ، لماذا لا نعيش كعائلة واحدة تحت سقف واحد، رغبتي نار تملأ قلبي، ألا يحق لي أن أعانق والدي؟ لماذا لا تحدثني أمي عن والدي؟ كلما سمعتُ زميلاتي يتحدثن عن آبائهن أحسست بعقدة تخنق أنفاسي، أحب الكلمة بقدر ما أكرهها. كلما سمعت صوت رجل قلت في نفسي أيكون صوت والدي شبيها بهذا الصوت. يحدث أن أمُرّ بأحدهم فيتهيأ لي أنه والدي، أسرق النظر إليه فتصدر مني في سري كلمة بابا وكأني أناديه، وأنتظر منه أن يناديني: ابنتي.. صغيرتي.. حبيبتي.. عندما أعبئ الاستمارة المدرسية أبدأ بمهنة الأب: “مهندس”، وأتفنن في كتابتها وأحاول أن أجعل كل من حولي يراها بحجة أو أخرى، كأن أسأل زميلتي: أهكذا تكتب “مهندس” بالفرنسية؟ وفي عمق نفسي من الألم ما لا يطفئه إعجاب الكون. لم أكن أرضى بالصداقة رغم لطف الفتيات ورقتهن وحسن تعاملهن، بسبب العقد التي تؤثث فضاءات صدري، كيف أصادق وأصحب صديقاتي إلى سكن جماعي وأنا ابنة المهندس.. كل ما أعلمه عن والدي هو أن جدي بعد وفاة جدتي ظل في فرنسا متزوجا من امرأة فرنسية. لم يعد إلى الوطن، سألت عن عنوانه دون جدوى، بحثت عبر وسائل الاتصال الاجتماعي عن كل الناس الذين يحملون نفس اسمي فلم أستطع أن أجد علاقة نسب من قريب أو من بعيد مع أحدهم.
وكلما سألت أمي أن تدلني على سبيل أعثر من خلاله على هذا المخلوق الذي أثار في نفسي سواد الكراهية لنفسي أجابت في غضب: “لا تحدثيني عنه، لقد تخلى عنا وفر كالجبان. لديك اسمه اتصلي ببرنامج “مختفون”، أما أنا فلا أطيق أن أسمع اسمه.”
كنت في طريق عودتي من الثانوية أمر بمؤسسة تجارية، أتجول بين الأروقة، أشبع جوعي عن طريق بصري، كنت كثيرا ما أصادف هناك رجلا في العقد الخامس من عمره، يبتسم لي، وكم كنت أستعذب افترار ثغره، ويبادرني بالتحية حتى أصبحتُ أحس إحساسا غريبا إن أنا لم أر هذا الرجل، أجدني جادة في البحث عنه بعيني بين الأروقة.. يستوقفني من حين لآخر يحادثني وأبادله أطراف الحديث، يسألني عن عائلتي: أنا ابنة المهندس.. يسألني عن الدراسة وعن الدروس: نتائجي جيدة.. أنظر إلى وجهه أتفحص ملامحه باحثة فيها عن ملمح الرجل الحلم.. يمد يده للمصافحة فيبقي كفي في كفه، فأشعر بحرارة تصّاعد عبر الشرايين إلى غاية الدماغ، فيحمر وجهي وترتجف أطرافي ويفتر ثغري عن ابتسامة خجول..
كان هذا بداية مسار جديد في حياتي. لم أعد أهتم بدروسي، بل أصبحت أتغيب كثيرا عن الصف، أقضي آناء الليل وأطراف النهار منهمكة في تبادل المكالمات والمراسلات، أصبحت أعتني بشكلي بطريقة ملفتة. لاحظت والدتي أني آتي تصرفات أكثر من سني، فلم أكن أهتم لملاحظاتها، ولا أعمل بنصائحها. عن قلة درايتي بأساليب التجميل كنت ألطخ وجهي بالمساحيق. كنت أتصنع إبداء أنوثتي. لم يمض على حالتي هذه أكثر من سنة حتى، أضحيت شاحبة، ضامرة افتقدت نضارة وجهي وإشراقته بسب عملية إجهاض وما ترتب عنها من آثار.
انقطعت عن الدراسة وأمي لا تعلم شيئا، تظن أن صغيرتها تمر بفترة مراهقة صعبة، أثرت على جسمها، ترافقني لما تسمح لها الفرصة إلى حدود باب المدرسة، دون أن تنتبه الى ما بعد ذلك، وتستأنف طريقها إلى عملها.. تعرفت على شاب، كثيرا ما لاحقني، يتقرب مني كل يوم أكثر، كنت في بداية الأمر أنفر من شكله وهندامه، يثير في نفسي نوعا من الخوف، يتعقب خطاي، يستوقفني بطريقة مهذبة، يحدثني كجنتلمان شرقي حتى أخذ الاطمئنان إليه يدب في نفسي ليذيب جليد ذلك الخوف اللامبرر.. يعاملني بكامل الرقة واللطف نرتاد أماكن عامة، ينفق دون أن يطلب مقابلا، عهدته مواظبا على الصلاة، كلما ارتفع الأذان استأذنني وسعى لذكر الله.. كان لي هاديا، ومرشدا أستنير بحديثه، وأقتدي بسلوكه، وأعمل بنصائحه. كنت أخضع لتأنيب الضمير، نصحني الشاب “أبو زيان” بقراءة القرآن وتولية وجهي نحو القبلة.. لم يحدثني يوما عن رغبة، أو غريزة أو زواج، لمس عندي تأنيبا كبيرا لنفسي، رغم أني لم أسرّ إليه بما كان يعرفه عني. عمل على تنمية الشعور بالذنب لدي حتى أقنعني أن لا سبيل إلى الاغتسال من المعصية إلا بهبة النفس خالصة لله. وعدني أن يجد لي طريقا سالكا في الحياة أنال عبره نعم الحياة ورضا الله.. أخذ يحدثني عن سبل الجنة وأفضل سبيل إليها وهو الاستشهاد عن طريق الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وتقويض الشرك والمشركين، يغريني بما يناله المجاهدون من جزاء، والمستشهدون في سبيل الحق من نعم في الجنة مع الشهداء والصالحين، يصف لي الجنة بحدائقها وزلال مائها، وأنهارها الجارية، وثمارها الدانية، يسلك بي كل الشعاب، يجلسني على خضر الروابي أتأمل شمسا لا تغيب ويوما لا ينصرم واخضرارا لا يزول وسواقي جارية وكؤوسا دهاقا وسررا مرفوعة، ورجالا آية في العطف والحنان وحسن المعاملة، وكأنه عائد منها للتو، بعد أن أجريت عليها إصلاحات وترميمات، وأضيفت لها نعم لم تكن من قبل.. يفسحني على مراكب من نور عبر أوديتها، وأنهارها، تتدلى من فوقي ثمار دانية القطوف، أنى التفت ثمة أنوار وألوان لا أثر للسواد أو الظلام، يكفيني أن أشتهي ثمرة أو فاكهة حتى تأتيني متدحرجة.. يجعل مني إحدى حور العين، أنعم بالطهارة والعفة. يأتيني رجل من أولياء الله الصالحين، يقدرني أحسن تقدير.. حتى إذا ما أبديت استعداد كاملا للانخراط في سلك الجهاد، أخذني بالرفق، يشرح لي بساطة مهمتي التي لا تتعدى خدمة المجاهدين، من قبيل تضميد الجراح، وطهو الطعام. ومرافقة المجاهدين في حركاتهم وسكناتهم للغرض نفسه. وإذا اقتضى الأمر، حملت السلاح، كما يتمنى ذلك كل مجاهد، ليفوز بالشهادة ويحشر مع الأبرار، ويكون مأواه جنة النعيم.
رحبت بالفكرة، كيف لا وقد جاءتني فرصة التوبة عما ارتكبت، وارتاح من عذاب نفسي الذي لم يرحمني منذ أن قتلتُ نفسا بغير حق، وهي فرصة استبدال الجنة بالجحيم الذي خندقت نفسي فيه بارتكاب الكبيرة، وأبديت رغبة في التضحية في سبيل الله، لمَ لا؟ لقد انغمست في هذه المرحلة المبكرة من حياتي في الرذيلة ولو مرغمة ولا أريد لنفسي أن أكون وقود نار جهنم، وهي فرصة لا تعوض، لن أخبر أحدا بما أنا مقدمة عليه، عملا بنصيحة أبي زيان، وليتني كنت قد أطلعت والدتي على أمري.
التحقت مع من وفد على المعسكر، ثكنة السيدات، جيء بالجديدات بلباس عسكري ارتدينه في لمح البصر تحت صراخ القائدة ترميهن بأبشع الصفات، تهيأ لي أن مرحلة التدريب على حمل السلاح قد حانت فإما الاستشهاد والجنة وإما النصر وتحقيق حياة رغدة.. دخلت امرأة تحمل سلة حبلى بأقراص الخبز وتعقبها أخرى توزع علب المصبرات وثالثة من هناك ترمي نحونا بعبوات ماء، بعد أن التهمت ما بين يدي أخذت أقرأ على العبوة “معبأ في تل أبيب”، وعلى العلبة المعدنية” هدية من الدرع الأحمر، لا للبيع ولا للمبادلة”.
فجأة أخل بتفكيري مناداة القائدة علي، توجهت نحوها بخطى مدنية في تثاقل، لم أحفل بنفسها حتى وقعت تحت قدمي القائدة.
- ما هذا يا ربي، أين أنا من حديث أبي زيان؟ (قلتها جهرا).
هوت نحوي يدها وأمسكت بشعري تجرني على الأرض وتصيح بي
- انسي أحلامك يا..، انسي ماضيك.
لم يفتني رغم الوضع أن أفكر، “أما الماضي فساعديني على نسيانه، أما أحلامي فلا طاقة لي على نسيانها”. تغير اسمي من حواء إلى أم عبد الله، وأنا ما أنجبت، عفوا حملت جنينا مدة شهر، وكم ضايقتني هذه الكنية، فكلما سمعتها تذكرت جريمة قتلي عبد الله في أحشائي..
مر وقت غير قليل دون أن أبدأ في المهمة التي جئت من أجلها، تشغل بالي أسئلة كثيرة دون أن أجد لها أجوبة.. صباح يوم، بُعيد صلاة الفجر، أمرتنا القائدة بجمع أغراضنا استعدادا للرحيل. أجابت القائدة تلقائيا على سؤال يشغل كل واحدة منا:
- سنتحرك بحركة المجموعة الجهادية التي سنشرف على خدمتها..
دخل رجل بلحية كمخلاة، وشارب مضروب، اقتحم مجلس الحريم اللائي هممن بالاختفاء، لكن القائدة أثنت عزمنا، وأمرتنا بالنظر إليه كما تنظر المرأة إلى حليلها! كان مكشوف الرأس، كثيف الشعر طويله، عريض المنكبين، رداؤه أسود حالك، حذاؤه يبلغ منتصف الساق، يرتدي زيا عسكريا شابت لونه الرمادي خضرة باهتة.. أخذ يتفحص الحريم بعيونه، ويتفحص أجسادهن، يقف أمام هذه ثم إزاء تلك.. يقشّرها بعينيه يزيل ثوبها عن جسدها يخترق ليزره خمارها ليرعى حقل جسمها بتلاله وهضابه وسفوحه قطعة، قطعة وعيناه تصرخان جوعا نيابة عن غريزته..
شُحنّا في حافلة عسكرية مغطاة، لا نعرف لها اتجاها.. وصلنا ضيعة لم يُعتن بها منذ وقت طويل.. كنسنا ونظفنا ورتبنا. في منتصف الليل، وفدت جماعة من الرجال.. نادت القائدة: “شذى القمر”، وقفت سيدة في مقتبل العمر، خرجت إلى غرفة بها رجلان أحدهما صاحب اللحية المخلاة، أما الثاني فلا يبدو من ملامحه غير عينيه. قال الملتحي:
- هذا المجاهد البار يرغب في الزواج منك؟
- كيف يا سيدي وأنا امرأة متزوجة وأم لطفل، ولقد زهدت في الحياة، وتخليت عن زينتيها ابتغاء وجه الله.
- ألم يحدثك زوجك؟
- بلى، لقد حدثني عن الجهاد حتى نيل الشهادة.
- هذا هو جهادك الحقيقي، ستسعدين بقدر ما تسعدين هذا الرجل الذي جاء من بلاد بعيدة لنصرة قضيتنا والجهاد في سبيل الله، ليس لك أن ترفضي، فأنا أمير الجماعة ووكيلك الذي يزوجك.
- ولكني متزوجة، ومتى شرع التعدد للمرأة؟
- سيدتي لا بد أن معرفتك بأمور الدين والشريعة ناقصة، هل سمعت بــــ “نكاح الجهاد”؟
- لا، كيف لي أن أعتمد الشفاهية أسلوبا في ظل التكنولوجيا الحديثة، لم يعد العلم يعتمد على العنعنة. بحثت كثيرا ولم أعثر على هذا المصطلح في المعجم الديني.
- إذن أنت جاهلة بأمور دينك؟
- قد أكون، لكن كل ما تعثرت فيه من مصنفات وأنا أبحث لأكون فكرة واضحة عن الجهاد كما تدعيه الجماعات، هو حديث طويل في شأن الوضوء والتيمم والاستنجاء والاستجمار، وكيفية تحريك السبابة أثناء التشهد. وما الحكمة من الاستنجاء قبل المضمضة؟ وهل يجوز عوض المضمضة فرك الفم والأسنان بالفرشاة والمعجون؟ ووقفت على اختلاف الأوصياء في ذلك كما حال دون تكويني فكرة جبال من الكتب تخوض في الاعتناء باللحية وملاحقة الشارب بالسلاح الأبيض، فاجتهدت كما يجتهد المجتهدون. ولما كانت الأولى أنثى والثاني ذكرا استنتجت لماذا يبتسم لي الرجال ويكشرون في وجوه بعضهم، فتمنيت لو تحررت المرأة وكونت دولا مستقلة حتى يعتني بها دول الرجال حتى تختفي الحروب. وتأكدت لم الصرفُ العربي يقف عند الماضي وقليلٍ من الحاضر دون أن يتجاوزه إلى المستقبل على غرار باقي لغات البشر، وها أنا الآن أرى رؤيا العين أني أطارد الوهم وألهث خلف السراب.
نظر إليها الوكيل نظرة تكفير وحكم عليها بالتأديب قائلا:
- إني زوجتك “شذى القمر” فهل تقبل الزواج منها يا أبا براز؟
- لقد قبلت.
أمضى الرجل على ورقة بسطرين، وحملت المرأة قسرا على البصم، وأردف الوكيل:
- هي لك، أدبها أحسن تأديب، حتى تروضها، فالدابة لا تنصاع لصاحبها إلا إذا انهال عليها بالضرب المبرح.
بعد مقاومة شرسة، وجدت نفسها في حضن جسد عفن تفوح منه رائحة لم تر يوما مثلها، وأمام ضعف حيلتها استسلمت، طلبت من الرجل أن يّطهر، لكنه برر رفضه بالظرف الذي لا يسمح وادعى إرجاء الاغتسال إلى ما بعد المواقعة، توفيرا للماء الذي أصبح عملة نادرة. استسلمت مكرهة، أسلمت جسدها دون رغبة، لم تكن مواقعة، بل كانت وقوعا فقط. تكرر الوقوع مرات إلى أن خر الرجل من شدة التعب واستسلم للنوم طويلا، ما انشغل بوضوء أو صلاة، حاول الوقوع لما استيقظ لكنه عضوه ظل غارقا في النوم. قبل مغادرته الغرفة سمعت منه: “أنت طالق طالق طالق”. حمدت الله وشكرته أنها طلقت من خنزير لا يعرف طهارة ولا قبلة.. ما كادت تغتسل وتستريح حتى نودي عليها من جديد، لتجد وكيلها وزوج المستقبل في انتظارها.
- أنا وكيلك زوجتك هذا الرجل.
أصابني الذهول، لم يمر على زواجي بضع ساعات حتى طلقت، وها أنا أجد عريسا في انتظاري. هل أنت في قواك العقلية يا من نصبت نفسك وكيلا عني؟
- أجل، وكيف تجرئين على الاستهانة بوكيلك؟
- حاشا لله، لكني أراك نسيت قوله تعالى: “يا أيها النبي إذا طلقتم النساء.. الآية”.
- لم أنس، فذاك في الزواج المدني، أما نحن الآن ففي وضع مختلف.
- وماذا عن النسب؟ لمن ستنسب الحمل المحتمل؟
- في نكاح الجهاد يلغى النسب، أو قولي ينسب الوليد للمجاهدة.
- يعني يعود للمرأة، كما هو الشأن عند قوم موسى، وماذا عن الرائحة النتنة التي تفوح من هؤلاء المجاهدين، ألا يتطهرون، ألا يتوضؤون؟ كيف يستقبلون القبلة؟ لم أر طليقي يغتسل ولا حتى يتيمم، هل الصلاة مرفوعة على المجاهدين؟
– اسمعي يا هذه، لقد بدأت أشك في إيمانك، ألم تدركي بعد أننا نجاهد الكفر، عودي عن غيك وإلا أعدمتك في الساحة حتى تكوني عبرة للأخريات.
– بلى أدركت نوع الجهاد الذي تأتيه.
كان هذا زواجها الثاني الذي انتهى بالطلاق بعد ساعة أو بعض ساعة، وما أخذت قسطا من الراحة حتى عادت القائدة تطلبها لتجد القواد صحبة زبون ينتظرانها.
شاء القدر أن ُضم إلى الفريق فتاة شقراء من بنات عيسى غضة طرية ما كادت تتجاوز ربيعها الخامس عشر حتى حان خريفها .
يبدو أن للفريق كله وكيلا واحدا. واليوم جاء الوكيل وحده لا يرافقه عريس، لعب دور الوكيل ودور الشهود ودور العريس، ولما كانت الفتاة قاصرا تقمص دور القاضي أيضا.. زوجها نفسه، دون أن يتلو دعاء النكاح، شرع يطؤها، من قبل ومن فم ومن دبر. لم يرحم تمزق جسدها، ظل يلهث، ويتصبب عرقا دون أن تتوقف حركته، والجسد النحيل يرتجف دون انقطاع، ورقةٌ تعصف بها الريح. غابت الضحية عن وعيها جثة هامدة وحركة الشيخ تزداد هيجانا.. مر وقت غير يسير قبل أن تعود للحياة، في نصف وعيها وخوار قوتها، ما كادت تفتح عينيها حتى أحكم قبضته عليها يعاشرها بالمعروف! حاولت الصراخ فلم تقو، تزيدها حركته المهتاجة ضعفا على ضعف تسمع لهثه زئيرا، ينبعث من بئر عميقة وما زالت البئر تزداد عمقا والصوت يزداد فتورا، وما زالت قوتها تفتر وتخور والصوت يغور إلى أن أسلمت الروح لبارئها وهو ما يزال على حاله، يلتهم جيفة انقض عليها مستعملا تقنية “البول دوغ”، لم يدعها حتى نبضت حلقته. انتظر طويلا قبل أن تهدأ حلقة إسته إلى أن أصبح على أتم الاستعداد لجولة ثالثة، نظر إلى وجهها، ما تزال عيناها مغمضتين، تلمس يدها وقد تصلبت، جس نبضها وصاح: لقد استشهدت زوجتي! الله أكبر! ولا إله إلا الله! أبشري باللجنة! نعم الاستشهاد بقذائف الجهاد! وخرج كل من كانوا في الضيعة يربطون أحزمتهم، يكبرون ويهللون ويرقصون فرحا، بأميرهم الذي حقق أكبر إنجاز، فقد أسدى للأمة خدمة غير مسبوقة، استطاع أن يبعث زوجته إلى الجنة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ..
” ظللتُ في الضيعة، أستقبل الوافدين على سريري ليل نهار، وأسلوب أبي زيان في إقناعي يرن في أذني، من أين كانت له تلك الرقة وذاك الحنان المجاني الذي لم يطلب له مقابلا على غرار الذكور، وبأية صفة كان يغرقني في الهدايا، ولماذا؟..
أتزوجُ وأطلّق أسبوعيا عدة مرات، طيلة السنة، من الرجال من تزوجني عدة مرات متباعدة، راعني الزواج في أيام شهر رمضان بدعوى أنهم مجاهدون يتنقلون من مكان إلى آخر كالمسافر، من كان منهم مجاهدا لا يفكر إلا في النكاح، فعدة من أيام أخر.. أخذت أفكر في طريقة تنفّر الرجال مني، لكنهم لم يكونوا يميزوا بين الأحياء والجيف، أما أن يحترموا المحيض فأمر عندهم حرام. بدأت آثار المرض تلوح على محياي، تزورني الطبيبة في مخدعي، حيث لا وجود لآلات الفحص المتقدمة، ولا مختبرات للتحليلات الطبية، مجرد معاينة باللمس وجس النبض والاستماع إلى دقات القلب الذي لم يعد يشعر، افتقد كل أسباب الرقة..
تدهورت حالتي الصحية مع آخر أيام حملي، نقلت إلى مستشفى متحرك على متن شاحنة، خضعت لعملية بأدوات بدائية، ولما استعدت بعض قوتي وسألت عن مولودي، قيل لي مات نتيجة لضعفي، لكن المرأة المشرفة على توليدي، بعد أن استعدت عافيتي وبعد أن استعادت عافيتها من جراء الصدمة التي ألمت بها -كما زعمت- على إثر سقوط المولود من بين يديها.. لقد كان مخلوقا بأربعة رؤوس ثلاثة منها في نفس الحجم وفي نفس المستوى وعلى جبين كل منها حرف الأولى على اليمين باء والوسطى عين والأخيرة راء، أما الرأس الرابعة فأكبر حجما وأعلى ارتفاعا برأس أصلع على قمته نجمة زرقاء اللون. أخذت الرؤوس تتحرك فجأة في كل اتجاه، نبتت لها أنياب وأخذت تلتهم بعضها البعض والرأس الصلعاء تضحك ملء شدقيها، ولما رأى المسؤول هذه البشاعة أمر بخنق الرأس الحية وكذلك كان. حكاية لا تصدق. لا بد أنهم حملوه بعيدا لحاجة في نفوسهم. خيرٌ حدث، ما كان لي أن أقدر على رعايته لو بقي حيا.. حزنت لفقد ابني، حمدت الله على ما أعطى وما أخذ. لا أدري كيف أسرت لي إحدى العاملات في الشاحنة أنها أيضا قيل لها أن ابنها قد مات، وقيل لغيرها نفس الكلام، وحكت لها حكاية غريبة أن امرأة منهن قضت مع المجموعة وقت طويلا جيء إليها بغلام زوجا، لم يطاوعها قلبها أن تنكشف عليه مهما حاول ومهما تدخل الوكيل، وتذكرت ما حدث لأحدهم، لما دخل غرفتي أحسست بدوار، أمسكت رأسي بين كفي، اقترب مني وضع يده على رأسي وأخذ غطاء سحبه على جسمي، وجلس ينظر في غير اتجاهي لما يقرب من ساعة من الزمن، ثم قام وأعاد وضع يده على رأسي ثم انصرف.
أعدت إلى الضيعة حيث بقيت طريحة الفراش، أعاني من آلام فظيعة على مستوى الرحم، الذي أصبح حقلا للجراثيم والباكتيريا والمكروبات، جمعت ما كان يدفع لي مقابل كل زواج بل بعض ما كان يدفعه الزبون للقواد. ورحت أطالب وكيلي بنفقات كل طلاق وبالسماح لي بالمغادرة للاستشفاء. رفض كلا الطلبين، ولم يعد إليّ جواز سفري وشدد الحراسة علي، لكن على إثر قصف مروع، أحدث ارتباكا في الصفوف، حيث راح الكل يبحث عن مخبأ وقد سقط من الأموات الكثير استطعت تحت تلاحق القصف أن أجد لي سبيلا للفرار، رفقة شذى القمر. لم يعد لدي ما أخشى عليه، أصبح الموت بالنسبة لي خيارا أولا في الظروف التي تحيط بي والوضعية المزرية التي أحيا عليها.. بعد فترة قضيتها في كنف شذى التي عادت مباشرة لبيت والديها في إحدى قرى أهل السنة عوض بيت زوجها، الذي قبض ثمن معاناتها، علمتُ بعد فحوصات عدة أنني حاملة لفيروس الإيدز، لم تسمح لي مضيفتي بالمغادرة حتى أستجمع بعض قواي..
زججت بنفسي في اغتراب مطلق بل زجت بي الظروف حتى لم أعد أعقل ذاتي، لا أب أحاطني برعاية عندما كنت في أمسّ الحاجة إليه، ولا أم استطاعت أن تملأ علي فراغات نفسي. هربت من مخالب ذئب نهش لحمي إلى أحضان الدين أطلب التوبة وأسعى لنيل الشهادة، غير أن روحي تمزقت كما تمزق رحمي.. أقضي آناء الليل وأطراف النهار على صراط اليأس دون رجاء، هل أبحث لي عن دليل يخرجني من هذه الأرض التي تتغذى نيران الحرب على أرواح أبنائها؟ وهل أعود إلى موطني أم أبحث لي عن موطن آخر؟ أم أجعل من الفضاء الواسع وطني؟ وهل يوجد على الأرض وطن يستطيع أن يأويني غير قبري؟ لقد تشظت روحي، وأضحت كل شظية منها بألف اتجاه، فكيف أرسو على رأي. تحدثتُ يوما إلى ندى أخبرها أني عقدت العزم على الرحيل:
- أختي التي لم تلدها أمي، أختي التي آوتني وكفكفت دموعي يعز علي فراقك، لكن لا بد لي أن أرحل.
- أن ترحلي نعم، لكن الوقت لم يحن بعد، فأنت لم تتماثلي للشفاء بعد، الدواء والحمد لله رغم ظروف الحرب نستطيع الحصول عليه، وما زالت الحرب على أشدها والطريق غير آمنه، لذا لن أسمح لك بالرحيل حتى تشفي أو على الأقل عندما تضع الحرب أوزارها.
- أختي أستحلفك بالله أن تدعي لي بالتوفيق.
- لا لن أدعو لك اليوم حتى..
قاطعتها:
- الشفاء الكامل أمر ميؤوس منه، والحرب أتمنى أن تضع أوزارها حتى تعودوا إلى حياتكم الطبيعية، أما أنا فلقد عقدت العزم.
بعد زفر طويل:
- تريثي على الأقل لأيام، سأحادث أخي سعد لتوضيب أمر رحيلك فلا حافلة هنا ولا قطار، والمسافة جد بعيدة كما تعلمين وأنت مريضة، وقد لا تقوين على قطع المسافات الطوال.