رياض الجهل المقدّس، وبلطجية الحقد المكدّس! – د. محمد الشرقاوي

0
1177

ثمّة أكثر من خطّ متواز بين مزاج التّربة في الطّبيعة ومزاج الدبلوماسية في العلاقات الدولية: كِلامُها يكرهان الفراغ والجفاف والجفاء، فيصبحان مجالا مُتْرَعا لولادة ظواهر شاردة، وزحف نباتات شاذة عبثية، ونموّ طفيليات شوكية سامّة مثل الحنظل أو العلقم والحامول والهالوك ودغل الساحرة. بين تربة رملية قاحلة ودبلوماسية متشنّجة حانقة في الرياض، دعس أحد الأكابر على إحدى هذه الحنظلات الإعلامية، فتفجّرت إفرازات العداء من داخلها وتدفّق العلقم في مشهد دونكيشوتي بئيس للنيل من سمعة دول عربية وإسلامية كالأردن وتركيا ومصر والمغرب، والتّسخيف بدور السياحة في اقتصادها، والتشهير بنسائها، والقدح في ذمم مغتربيها. يبدو أنّ هذا الحنظلي العلقمي، وهو أقرب اسم مناسب إلى خِلقته وصوته وشكله جملة وتفصيلا، لا يستند في تقديم “بناة أفكاره” في مجال التنمية على دراية علمية، أو خبرة اقتصادية، أو مقارنات موضوعية بين الدول التي تعتمد على الزراعة والسياحة والتحويلات المالية لجالياتها في الخارج ودول تنهج سياسة بديلة، بل جاء ما تفتّقت به هذه “العبقرية” الشّاردة عن التّمحيص العقلاني مجرّد تقرّحات الضغينة والتّنفيس، أو catharsis، الذي يترقّبه علم التحليل النفساني في مثل هذه الحالات غير السويّة من شدّة التشبع الشخصي لدى صاحبنا بمعاناة الرياض مع معضلة الإمساك السياسي ومحاولة تغليفه بعداء مجاني لأربع دول خلال جلسات السّمر مع علية قومه من المبشّرين بالعهد الجديد لأمير جامح يطلق الرّصاصة أوّلا ثم يحاول أن يسدّد نحو الهدف لاحقا.
هو حديث أبله لا يرتفع عن مجرّد كونه ترنّح الصّراصير السياسية عندما تجتمع عليها حالة الحرّ المتزايد، وكآبة الحجر الكوروني، والاختناق الاستراتيجي، وتآكل رأسمالها الدبلوماسي مع عواصم العالم. هذا بعض ما تعانيه رياض محمد بن سلمان حاليا بفعل موجات التزحلق المتلاحقة منذ عام 2018 بفعل تبعات قرار التصفية الجسدية لجمال خاشقجي في القنصلية السعودية في استنبول، وتلاحق هجمات الطائرات بلا طيار على القصر الملكي في الرياض والمنشئات النفطية، وعجز الترسانة العسكرية السعودية التي تفوق ميزانيتها 70 مليار دولار عن التصدي لها، وانهيار التحالف الإماراتي السعودي في اليمن، ونجاح المجلس الانتقالي الجنوبي في قلب الطاولة على حكومة “الشرعية” التي ترعاها السعودية. ومما يزيد في الطين بلّة تعثر طرح أسهم شركة أرامكو الوطنية في الأسواق المالية وتضاءل تقديرات قيمة الشركة بالنصف من تريليونين إلى تريليون واحد، ناهيك عن تدهور سعر النفط حاليا إلى أقل من 25 دولار للبرميل، واستخفاف الرئيس ترمب بنفط السعودية وما تعتقد أنه لا يزال “عصب” الحياة الاقتصادية في الدول الصناعية. وتصبح المفارقة سياسية ونفسية بامتياز عندما تحاول الرياض استدامة لحظة النشوة أطول ما يمكن في قيادة منظمة أوبيك المهددة بالترهّل في الأعوام الخمسة عشر المقبلة عند تجاوز أهمية النفط في العالم.

غياب العقل وهذيان الجمجمة:

يبدو أنها لعنة خلدونية بشؤم “دورة الحضارة” تصيب عرش النفط السعودي حاليا قبل أن يتسلّم محمد بن سلمان تاج الملك كما يأمل قبل نهاية العام، لينقلب مجد امبراطورية الذهب الأسود إلى امبراطورية الرّمال والحنظل المسموم. هي أيضا نقمة سوء التقدير والعدّ العكسي لمغامرة اليمن والترويج لصفقة القرن والتبشير بالعهد الترمبي “الميمون” الذي غدا نقمة على العلاقات السعودية الأمريكية. وتكثر الأمثلة على حالة الإمساك السياسي والتقوقع الاستراتيجي لدى حاكم الرّياض “القوي” الذي يجد نفسه كمن يتحوّل كل ما يلمسه بيده إلى خشب نال منه التسوّس بهجمة الحشرات والفطريات. هكذا هي طبيعة الشّتائم السياسية لا تأتي من فراغ، بل تنمّ عن خلفيات متشنّجة وسياقات محتقنة تهدف إلى إدارة المرحلة بإيجاد خصوم جدد وحلبات أخرى للضرب تحت الحزام عندما تتّسق هرطقة الإعلامي الظاهر مع هوى السياسي الباطن. وبينهما علاقة دعارة غير معلنة في ترويض خطاب عام سلبي. هكذا جاءت رقصة اليوتيوب لصاحبنا الحنظلي العلقمي المأجور على إيقاع أجيره ووليّ نعمته. وبدا أنه تشبّع أيضا بمركّب جنون العظمة إسوة بصاحب “المقام العالي”، وكلامهما يتصرّفان كمن يودّ أن يجلس على السحاب ويخمنّ في الضباب. لا تكشف عصبونات صاحبنا سوى عن قدرات ذهنية محدودة ولغة شعبوية مبتذلة. فقد وجد في ظهوره عبر الانترنت منصّة مناسبة ليحاضر في نظرية جديدة لم يكتشفها القدامى مثل آدم سميث، ولا مينارد كينز، ولا المحدثون كسمير أمين ولاري دواير وبيتر فورسايث، ولا متوَّجُو علم الاقتصاد بجوائز نوبل، إنها اختراق علمي حصري: “انهيار اقتصاد بلدان الطرابيش”!
هو حكم قيمة ينحو منحى المطلق في التخلّف الذهني لدى من يعيش في غير واقعية من أمره، ويوهم نفسه أنه السويّ بين “المشوّهين” أو البصير بين “العميان”. لا أريد أن أقسو على صاحبنا أو أستغلّ ضعفه الفكري وقصور نظره الحضاري. وكما قال الروائي الإسباني ماتيو أليمان (1547 ـ 1615) قديما، “أفضل علاج ضد الشتائم هو احتقارها.” لكن قد أتعاطف مع صاحبنا في حاجته للتمييز بين ما ينبغي أن يخلص إليه العقل المتّزن وما تنحو إليه تلك الجمجمة فوق كتفيه من تعميم الأحكام وإسقاطها على عواهنها على كافة الأردنيين والأتراك والمصريين والمغاربة. تعميم الأحكام مصيبة في حدّ ذاته ولا يُقاس عليه على الإطلاق نظرا لتعارضه مع أحكام الدين إذ أنّ “كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه”، ومع أدبيات العلاقات الدبلوماسية بين الدول وحوار الثقافات، وحتى مع أبجديات الإعلام الذي لا يبدو أن صاحبنا قد دخله من بابه الواسع حيث يحث ميثاق الشرف الصحفي على حظر تنميط الصور السلبية أو حشر مواقف شخصية أو نشر معلومات لا تستند إلى وقائع. قد لا يعلم صاحبنا أن ذلك الطربوش الأحمر وشاشيته السّوداء لدى أهل المغارب رمز تاريخي تعتزّ به شعوب عريقة ورثت موجات الحضارة على مرّ التاريخ، من حضارة الأمازيغ قديما الى حضارة الأندلس ونهاية بالحضارة الأوروبية. طربوش سارت بذكره الركبان، فكانت له في المعاجم اللّغوية مكانة خاصة: هو فاس على الرؤوس، وفاس حاضرة العلم على خط التواصل بين المغرب والأندلس، وفاس في فاه الخيول الأصيلة التي امتطاها طارق بن زياد خلال فتح الأندلس.
أمّا إسقاط شتيمة “البغاء” بشكل فجّ على مجتمع مغربي بكامله فهو من بهلوانيات التفكير الأهوج ورمي الحجرة من خلف السور. وقد لا يتخيّل صاحبنا ماذا تفعل فئات واسعة من السعوديات مع خدمهن من الهنود والنيبال ومع الشباب العرب وغير العرب في عطل الصيف اللندنية عندما يعصف داء السّكري والأمراض المزمنة الأخرى بفحولة أزاوجهن. لكنّي أرفع القبعة احتراما للسعوديات المتنورات في الدّاخل والخارج مثل غادة المطيري صاحبة الابتكارات المثيرة في مجال اختراق الجسم بلا عمليات جراحية، وخولة القريع في أبحاث السرطان، ومضاوي الرشيد في تدريس الأنثروبولوجيا في جامعات لندن. لا يمكن للمرء أن يسقط في منزلق التعميم أو التنميط. وكما يقول الكتاب والناقد المغربي المقيم في ألمانيا محمد كنوف “لكي تكون ناقدا مجتهدا، يلزمك أن تكون شخصية دارسة، لا شخصا بذّاء لعّانا، لقد انتهى حال التّجاذب الأخلاقي. نحن الآن نؤسّس لمرحلة سياسية مالية وثقافية جديدة جدا، متجاوزة ثقافة التّسطيح والتهويل والوعيد.”
في المقابل، ينبغي أن أنبري بنفسي لحظة لأفسح المجال لنساء المغرب للردّ المباشر على تحامل هذا الكائن الهرموني الذي لا يفكّر في المرأة إلاّ بما تفرزه الغدد بين فخديه وجمجمته. هذه فاطمة بنت محمد الفهري تقول: “بنيتُ جامعة القرويين أول مؤسسة علمية عام 859 للميلاد وفيها تمّ ابتكار الكراسي العلمية ودرجات التخرج ومنها “العالمية” التي استلهمت منها جامعات أوكسفورد والسوربون وهارفارد نظام الدكتوراه”. وهذه فاطمة المرنيسي تناديك لتتعلّم كيف تفكّك طبيعة وآليات العلاقة بين الجنسين داخل ثقافتك السعودية المتذبذبة بين قبضة الوهابية ونزعات التحديث ودور عرض أفلام هوليود ونوادي “الرّقص الحلال”. وقد تلاحظ الأستاذة المرنيسي أنّك اليوم بغترتك وعِقالك ومظهرك المتحضّر بجهاز كمبيوتر ومرصوصة الكتب من خلفك، لا تزال مهووسا بالجنس كهندسة اجتماعية، وأنك وأمثالك تظلّون حبيسي القراءة الجنسية للمجتمع والتواصل وكل تركيبة القرن الحادي والعشرين. وإذا كنت ترغب أن تخرج من جاهليتك، يمكنك أن تقتني نسخة من كتابها “هل أنتم محصّنون ضد الحريم”!
إذا سافرتَ يوما إلى أمستردام لمداعبة هوسك الجنسي بمشاهدة عارضات أنثوياتهن عبر النوافذ، قد تدعوك خديجة عريب رئيسة البرلمان الهولندي لحضور إحدى الجلسات لتأخذ فكرة معاصرة عن شأن المغربيات في الخارج. لكن أخشى عليك من الارتباك والتعثر في خطواتك فستقط أرضا من هول الصّدمة. وبعد أن تستعيد نفَسَك وتستوي في جلستك، يمكنك أن تكتشف ما تفتقده نساءكم حتى الآن في سعودية الحداثة والانفتاح وسعودية “رؤية 2030” إذا رغبتم في تصحيح الرؤية: ها هي خديجة الرياضي أوّل مغربية وعربية تحتفي بها الأمم المتحدة وتقدّرها بالجائزة الدولية لحقوق الإنسان. وقد تستلهم العبرة أيضا من مغربيات أخريات هاجرن للعلم وليس “البغاء”. من المرتقب أن يحدث لك انكماش نفسي أو رجّة ذهنية تذيب معنوياتك وتنسف بطولاتك الورقية عندما تتعرّف على مسيرات نجاح أخرى لكوثر حفيظي التي تقود قسم الفيزياء بمختبر “أرغون” الأمريكي، أو سلوى الغربي التي تدير قسم حقوق الإنسان والتنوع الثقافي في مركز اليونسكو في برشلونة وتساهم في بناء أوروبا التعددية العرقية والثقافية. وقبل أن تسوء حالتك أيّها الحنظلي العلقمي مع الإمساك الذهني والعسر الفكري في استيعاب هذه المفارقة، تذكر ما قاله المتنبي “وإذا أتتك مذمّتي من ناقص… فهي الشّهادة لي بأنّي كامل.”

فهد والحسن،،، ومقولة الملك المشترك

ليس من شيم العرب الأقحاح الجحود أو تناسي المكارم. بيد أن صاحبنا ومن يقف خلفه مثال على جيل جديد من السعوديين المتنكّرين لقيم العروبة والعروة الوثقى التي عزّزها الملك فهد والملك الحسن الثاني خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. وقد حذت هذه الروابط المتينة بالحسن الثاني خلال تسجيل خطاب العرش في القصر الملكي بفاس في الثاني من مارس/آذار عام 1983 إلى استخدام عبارة “استقبلت بلادنا خلال العام المنصرم صديقنا الكبير وشقيقنا العزيز صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز عاهل المملكة المغربية…” وعندما انتبه الفريق الإعلامي والوزراء الحاضرون إلى يمكن أن تكون “فلتة لسان” كما يذكر محمد بن ددوش في كتابه “رحلة حياتي مع الميكروفون”، تقدّم وزير الإعلام آنذاك الدكتور عبد الواحد بلقزيز نحو الملك “الذي توقف عن متابعة خطابه ليستمع إلى ما يقوله وزيره. أطرق الملك رأسه وساد الصّمت قليلاً، ثم رفع رأسه وقال مخاطباً الوزير: “أييه”! الملك فهد ملك المملكة المغربية، وليس هناك خطأ وعليكم الاحتفاظ بالجملة كما هي” وأمر باستئناف التّسجيل. وفي يوم عيد العرش أذيع الخطاب كما سُجّل، وسمع المغاربة تلك العبارة، فتيقّن الجميع أن قرار الحسن الثاني الاحتفاظ بتلك الجملة كما نطق بها علامة على مدى عمق الروابط الأخوية التي جمعته بالعاهل السعودي الراحل وببلاده الشقيقة على مدى عقود.”
وفي أكتوبر الموالي عقب استقبال ولي عهد المغرب آنذاك في القصر الملكي الجديد الذي كان في طور التشييد بشارع الكورنيش في جدة، توجّه الملك فهد خلال مأدبة الغذاء بالخطاب مباشرة إلى رجال الأعمال السعوديين وطلب منهم “تقديم كل ما يمكن من الدعم للمغرب، لما لهذا البلد من مكانة في نفسي ولما أكنه من تقدير واحترام لأخي الملك الحسن الثاني الذي اعتبره ملكا للمملكة العربية السعودية”. وبعد خمسة وثلاثين عاما، شدّد الملك محمد السادس على تمسّك بلاده بأمن دول الخليج خلال مشاركة المغرب في القمة الخليجية عام 2016، وتعهّد بعبارة عميقة في دلالتها ووفية في مغزاها قائلا “ما يمَسّكم يمَسّنا”.

لا وصاية، ولا مساومة “حقّه كم”!

يبدو أنّ السّعوديين الجدد، أو من ظلّوا الطريق من حقبة العرب البائدة، يستبدلون الشهامة بالشتيمة، ويتنكّرون لما يؤرّق روحيْ الملكين فهد والحسن الثاني في قبريهما. قد نستحضر ما قاله ابن خلدون الذي نفذ تحليله إلى عمق هذه الكائنات متقلبة المزاج، و”أنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعيث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرّون إلى منتجعهم بالقفر ولا يذهبون إلى الزاحفة والمحاربة.” هم سعوديو الولاء الأمريكي وليس الإخاء العربي عند التصويت على الدولة التي ستستضيف مباريات كأس العام عام 2026، ومحرّضو بعض قنوات الإعلام للتلويح بعدم مغربية الصحراء ووضع قشور الموز في طريق السياسة الخارجية المغربية. يتعيّن على أمراء السعودية ومهندسي العداء الجديد أن يستبدلوا قهوتهم بصنف مغاير حتى يفهموا طبيعة العلاقات السعودية المغربية بمنظور الرباط وليس بتعنّت الرياض. لم يكن كرم الحسن الثاني ولا مودّة محمد السادس قابليْن لسوء التأويل، أو قلب المفاهيم، أو محاولة القفز على فحوى الاتصالات بين الرياض والرباط، أو التلاعب بقاعدة التعاون المتكافئ المبني على حتمية التفاهم والاحترام المتبادل إلى ما قد يتراءى في تقديرات البعض أنه مسعى عبثي لفرض “وصاية” سعودية وإماراتية على صنع القرار في يد المغرب. وكما قال ابن خلدون مرة أخرى “هم متنافسون في الرئاسة وقلّ أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلاّ في الأقل وعلى كره.”
لا المنطقُ السياسي ولا ديناميةُ العلاقات الدولية يقبلان الضّغط على الرباط إذا اختارت عدم مجاراة موقف الرياض في التغطية على مصرع خاشقجي، أو عدم استقبال محمد بن سلمان وهو في طريقه إلى قمة العشرين في الأرجنتين قبل قرابة عامين، أو عدم مقاطعة قطر عقب الحصار الرباعي الذي فرضته السعودية والإمارات والبحرين ومصر عليها منذ يونيو 2017. ولا حجة لأيّ كان يريد أن يحاجج الرباط في إعادة تقييم مشاركتها المحدودة ثم انسحابها من حرب اليمن، أو رفض المشاركة في حملة الترويج لصفقة القرن، أو عدم حضور شخصية رفيعة المستوى إلى اجتماع المنامة في أغسطس 2019، ولا في الانضمام إلى المساعي السعودية الإماراتية الأمريكية للتطبيع العربي مع إسرائيل.
يبدو أن ما لا يستوعبه هؤلاء الحنظليون العلقميون في سعودية بن سلمان وإمارات بن زايد حتى الآن هو أنّ دبلوماسية المغرب عريقة في تبنّي سياسة توازن القوى إزاء الشرق والغرب والشمال والجنوب. ويعزى هذا الخيار إلى موقعه الجيوسياسي في قلب القارات وعند تقاطع بحر متوسط ومحيط أطلسي، وإلى تفاعله التّاريخي مع شتّى الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية والتقدمية والأصولية. ولأكثر من ثمانين عاما بين 1830 و1912، ساهم هذا الخيار الاستراتيجي في إيقاف الأطماع الاستعمارية البريطانية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية وحتى الألمانية في الدخول إلى أراضيه. الفرق الآخر في المزاج السياسي المغربي إزاء الخارج أنّه غير انفعالي ويميل إلى الدبلوماسية الهادئة على خلاف النزعة الارتجالية المهيمنة حاليا على عملية صنع القرار في الرياض. كما أنه لا يقبل من أي دولة صديقة أو غير صديقة أسلوب ليّ الذراع، أو مساومة مواقفه على طريقة “حقّه كم”، أو التّرغيب ببدء مشروعات عقارية أو الترهيب بسحب الاستثمارات السعودية في بنياته الأساسية. لم تدرك الرياض وبجوارها أبو ظبي على ما يبدو أنّ المغرب قاطبة بمؤسّسات الحكم المركزية فيه وشتّى تياراته الحزبية والنقابية وتنوّع فئاته العرقية وأطيافه الثقافية لا تقبل بأي وصاية خليجية كانت أم غربية. ليس المغرب وكالة لاستئجار المواقف السياسية، ولا لبيع الذمم الأخلاقية إزاء القضية الفلسطينية أو محنة أبرياء اليمن، أو للتطبيع من نتنياهو. وعلى السعوديين الجدد أن يتأملوا مليا في صدّ مساعي وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو اصطحاب نتنياهو على نفس الطائرة من لشبونة إلى الرباط في أوائل ديسمبر الماضي. قد يبدي المغاربة التريث والكياسة في التعامل الدبلوماسي، ولكن عمودهم الفقري يظلّ متماسكا مستقيما في جسدهم السياسي، وهم أحرار في تحديد خياراتهم الاستراتيجية إزاء المنطقة والعالم.

عبثية البحث عن كومبارس سياسي

ثمّة عبارة أساسية تحتاج للتّرجمة مجدّدا بجميع اللّهجات والأبجديات والقواميس السعودية والإماراتية: إنْ يظلّ المغرب صديقا ملتزما بصداقة إيجابية مع كافة دول الخليج وغيرها، فهذا يجعله متمسّكا أيضا باستقلال قراراته. هذه حتمية سياسية ودبلوماسية يشدّد عليها المغاربة اليوم أكثر من أي وقت سابق، ويبدو أن هذه الرسالة لم تصل منذ استدعاء السفيرين المغربيين في الرياض وأبو ظبي قبل عام ونصف بمنطلق “اللبيب بالإشارة يفهم”، وهو أسلوب تعزّزه المدرسة المغربية والتركة الأندلسية في السياسة والدبلوماسية. لكنّ قد تحتاج هذه المرحلة لترجمة تفوق بناء اللغة ونبرة المكالمات “الودية” بين الرباط والرياض وأبو ظبي. وقد يؤاخذ المرء على موقف المغرب التريث والمهادنة وانتظار أنّ اللبيب سيلتقط المغزى ويكف عن إصراره وتكابره كما جاء في ثنايا أكثر من مقابلة صحفية لوزير الخارجية ناصر بوريطة. قد تكون العفة الدبلوماسية أمرا مستحبا، لكن قد تصبح غير فعّالة مع آذان تسمع ولا تعي، تنظر ولا تبصر، في اختيارات مغرب 2017 و2020 والأعوام المقبلة. حان الوقت لكي تسمع الرياض وأبو ظبي موقفا صريحا وحاسما من الرباط لإلغاء التأويلات والمفاهيم المتذبذبة بين المنزلتين.
ليس المغرب قابلا أن يضعه أصدقاؤه الخليجيون في أيّ خانة موالاة أو معسكر تبعية، أو أن يسقطوا عليه أي خطط نفوذ في المغرب الكبير، أو أن تُرسم له أدوار الكومبارس في أيّ صفقة قرن أو تطبيع أو تصفية أي تيارات غير حداثية في حقبة المؤامرات وخنق مطالب الإصلاح والتجديد السياسي والاقتصادي التي صدحت من أجلها أصوات المتظاهرين في ثورة الياسمين واحتجاجات الرباط والدار البيضاء قبل تسعة أعوام وحراك الجزائر منذ فبراير من العام الماضي. لن يدخل مدّ السعوديين الجدد أو الإماراتيين الجدد إلى ربوع المغرب الكبير لا بدعم الجنرال خليفة حفتر ولا ببناء ميناء ضخم على سواحل موريتانيا. ولن يفرّط الوطنيون الليبيون في اتفاق الصخيرات ولن يتنكروا لضيافة مغربية مهّدت لأهم اتفاقية لبناء السلام في ليبيا بتزكية الأمم المتحدة وبقية المنظمات الدولية.
الدبلوماسية فن وعلم، وتدبير العلاقات الدولية قيمة حضارية قبل أن تكون لعبة سياسية. لكن تكريس مركّبات التفوق الموهوم وحشر أصوات النشاز من فئة الحنظلين والعلقميين في التعامل الدبلوماسي يعكس بداوة سياسية لم ينل منها تطوّر العمران البشري والسياسي التي تحدث عنه ابن خلدون. وختاما، أقتبس من الكاتب البحريني الدكتور حسن مدن صاحب عدة مؤلفات منها “الثقافة في الخليج: أسئلة برسم المستقبل” عبارة تختزل واقع الحال حسب رؤية تظل قائمة منذ أكثر من ستة قرون، إذ يقول “ابن خلدون المؤرخ في الأصل لا شك أنه يعلم أن “جينات” أيّ أمّة قابلة للتطور والتحوير تبعاً لتطور مساراتها في التاريخ، لذا ما من صفات مخلدة أو أبدية للعرب أو سواهم، لكن ما نقص وينقص العرب هو الرافعة الحضارية التي تحقق هذا التحوير.”

د. محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية الصراعات الدولية في جامعة جورج ميسن، وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here