“مِزْجٌ ومِزاجٌ” :
-الجزء الأول-
غادر سريره كالعادة، متكئا على عصاه التي لا تفارقه. أخذ دوشا سريعا، و توضأ، ثم حمل قرآنه متجها نحو أقرب مسجد كي يصلي صلاة الفجر. يبدو للناظر كملاك هبط من السماء يحف به نور الطهارة والجلال.
قابل شابين يرتدي كل منهما بدلة رمادية اللون وقميصا أبيض، ويحتذي أحدهما حذاء أسود والآخر حذاء بنيا. قال لهما:
-” صباح الخير يا خيرة شباب الحي.”
-” صباح الخير عمي أحمد. تقبل الله صلاتك، لا تنس الدعاء بالبركة لنا.”
-“أعانكما الله في أعمالكما. سأفعل إن شاء الله.”
دخل العم أحمد المسجد، بينما تابع الشابان سيرهما واستقلا سيارة الأجرة التي كانت تنتظرهما. قال لهما سائق السيارة:
-“صباح الخير، تأخرتما خمس دقائق اليوم!”
قال له خالد مبتسما:
-” دقيق أنت في مواعيدك.. مدير البنك أخذ إجازة من العمل، فلنستغل غيابه ونرتاح قليلا..” -ضَحِكَ-
-“لا تروق لي أفكاركما.. اعملا بجد، كي تجنيا مالا حلالا، الاستهتار في العمل لن يفيدكما.”
رَدَّ عليه خالد:
-“حسبُ هذا الوطن شخص مثلك يا عبد الرحمن.. أما نحن، فادع لنا كي نغادره ونعيش في بلاد الحرية وتلمس أيدينا الأورو! آه !! ليت أحلامنا تجد النور في ذلك الفردوس!!”
شغل عبد الرحمن محرك سيارته ثم ضغط على زر المذياع طالبا إذاعة وجدة. جلس خالد ومصطفى على الكرسي الخلفي، كل واحد منهما منشغل بهاتفه.. يتدحثان من الحين للآخر عن الأخبار التي يقرآنها في العالم الافتراضي. بعد ساعة وصلت سيارة الأجرة إلى مدينة بني درار.. ركن عبد الرحمن السيارة أمام البنك الشعبي، ثم قال لهما:
-“قيل في نشرة الأخبار أن اليوم ستمطر بغزارة، إذا رغبتما أحضر مبكرا كي أقلكما إلى منزليكما.”
أجابه خالد:
-” إذا أمطرت، نبيتُ الليلة هنا. السيد العربي سيحضر بضاعة جديدة من الجزائر.. أود شراء هدية لأمينة والأولاد”
قال لهما مصطفى:
-” خالد، أنت وأمينة مثال الزوجين الرائعين، تزوجتما عن حب ومازالت مشاعركما جيَّاشة، هنيئا لكما بهذه النعمة الإلهية.
عبد الرحمن، لا تقلق يا صديقي، سنتدبر أمرنا.. تفضل، هذه أجرتك.”
-” أعانكما الله. إذا غيرتما رأيكما، هاتفاني. مع السلامة”.
نظر خالد إلى السماء ثم قال:
-” صدقت تنبؤات النشرة الجوية، بدأت تمطر يا سادة!”
غادر عبد الرحمن مستقلا سيارته. أما خالد ومصطفى، فأسرعا بالدخول إلى البنك الشعبي.
في المنزل المقابل للبنك، لمح مصطفى، السيدة العجوز التي تجلس على الأريكة، منشغلة بتطريز اللباس الصوفي. توقفت فجأة، وضعت الهاتف قرب أذنها اليمنى.. كان يراقب شفتيها المتحركتين ببطء، فجأة فتحت العجوز فمها وكأنها تصرخ! قال مصطفى لخالد:
-” انظر، السيدة خدوج تبدو منزعجة من مكالمة هاتفية. سأذهب إليها كي أطمئن عليها.”
قال له خالد:
-” خذ هذا (المسمن*)، هي تحبه كثيرا، ولا يحلو الشاي بدونه ولو كان بالنعناع”
هرول نحو منزل السيدة خدوج. ضغط على جرس الباب ثم طرق الباب بقوة.. بعد دقائق، كانت السيدة خدوج تقف أمام الباب. قالت له بصوت خافت:
-” تفضل يا بني.”
-” ما خطبك يا حاجة؟ تبدين شاحبة؟”
-“ابنتي شجن ستأتي اليوم.”
-“هذا خبر سعيد، لماذا الحزن إذن؟”
-” لأن ابنتي ستغادر منزلها إلى الأبد !! خلعها زوجها!”
-” لماذا؟ كانا يبدوان سعيدين.”
-“قلتها بني: (كانا) !! الأشهر الأخيرة كانت تشك ابنتي شجن أن زوجها يخونها.. ويا ليته خانها ولم يفعل ما فعل!!”
خرجت كلماتها من حنجرتها وكأنها دخان رمادي يتصاعد من فم وقلب احترقا بأفعال صهر العجوز.
قال لها مصطفى:
-” وهل هناك أفضع من الخيانة سيدتي؟”
-” آه منكم يا شباب اليوم، لا تفرقون بين الصالح والطالح!! ولا تخافون العقاب، ولا تأبهون لحرارة جهنم!!”
تابعت حديثها قائلة بامتعاض:
-” شجن ابنتي وافقت على الخلع، ولم تشأ فضح أب أولادها!! أتساءل كيف سينظر الأبناء لأبيهم بعد علمهم بميوله الجنسي؟!”
-” أثرتِ فضولي يا حاجة، ماذا فعل حسن؟”
-” خان ابنتي مع صديقه!!”
-“ماذا؟؟؟”
-“لاحظت شجن في المدة الأخيرة أن زوجها لا يفارق هاتفه. في البداية، اعتقدت أن لديه عشيقة. لكن صديقتها أسمهان علمتها كيف تتجسس على زوجها من خلال تطبيق الوتساب. فاكتشفت خيانة زوجها لها. كان يتحدث مع صديقه وكأنه يحدث عشيقته! قوم لوط عادوا يا بني! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.”
-” تعرفين الوتساب وقوم لوط يا حاجة؟”
-” أعرف الكثير يا بني.. لا تغرنك هذه الشعيرات البيضاء وهذه التجاعيد الكثيرة.. أَتَدَعْدَعُ أحيانا، وأبدو أكبر من سني.. لكني أصغر مما تعتقد.”
-” مجرد اسم خدوج جعلني أعتقد أنك عجوزا”
-“أبي أصر أن تحمل ابنته البكر اسم والدته. عمري ستون عاما يا بني.. ركبني الهم منذ تزوجت علالا. زواجنا كان تقليديا، اعتقد أهلي أن المال سيسعدني، لكن الاختلاف الثقافي والتعليمي كان سبب فشل زواجنا. أنصحك يا بني أن تتزوج من فتاة تحبها، ومن التي لا يكون بينكما فارق ثقافي واجتماعي.”
لمح مصطفى زميله خالدا يلوح له بيده، فعلم أن عليه الرجوع إلى العمل. قال للسيدة خدوج:
-“الحديث معك شيق يا حاجة، لكن يجب أن أغادر الآن. تفضلي هذا (المسمن*) الذي صنعته أمينة زوجة خالد زميلي. لا تقلقي بشأن ابنتك. فالله تعالى لا ينسى عباده الصالحين.”
-“صدقت يا بني. حفظك الله من كل مكروه.”
رجع مصطفى إلى عمله، وشغله الشاغل حديث السيدة خدوج.. همس لنفسه:
”الآن فهمت لماذا العديد من الشباب والشابات يرفضن الزواج!!”
استفاق من شروده عندما سمع صوت خالد:
-” ما بك يا صديقي، تبدو شاردا؟ هل اشتقت إلى رؤية ابنة العم أحمد؟”
-” حديثي مع السيدة خدوج نبهني لأمر في غاية الأهمية..”
-” ماذا قالت لك ؟”
-” ليس مهما ما قالته، المهم ما استفدته من حديثها. المرأة يا صديقي تزهر عندما يهتم بها الرجل. وتبدو كالوردة الذابلة إذا أهملها أو أساء معاملتها. كنت أعتقد أن السيدة خدوج عجوز في سن الثمانين.. لكنها تبلغ الستين فقط!.”
-” كانت أستاذة فلسفة في ثانوية السلام، أظن أنها الآن متقاعدة.”
-“غدا سأحدث العم أحمد بخصوص طلبي للزواج بابنته فاطمة. إذا وافقت، سأكون لها الزوج الصالح إن شاء الله.”
-” متأكد؟ وصديقاتك الفيسبوكيات، ماذا بشأنهن؟”
-“سأغادر العالم الافتراضي! كفانا لعبا في هذه الدنيا الفانية!”
-“سعيد جدا بسماع هذا الخبر. الآن ستطمئن أمينة. كانت تحذرني منك، وتقول أنك تعرف الكثير من النساء.”
-” الحمد لله أنها لم تقل أنني أعرف الكثير من الرجال!!”
-“ماذا؟”
-” لا تهتم لكل ما أقوله يا صديقي…مجرد هلوسات”
دخل حينها زبون إلى البنك، وطلب من مصطفى بعض المعلومات عن قرض تجاري. أما خالد فجلس على كرسي مكتبه، وبدأ بمراجعة بعض الملفات.
عند حلول الأصيل، هاتف خالد عبد الرحمن:
-” أهلا ياصديقي! السيد العيد لم يحضر اليوم. هل بإمكانك المجيء بعد قليل؟”
-” طبعا طبعا، بعد ساعة أكون ببني درار إن شاء الله.”
(يتبع).
____________
*المسمن: وصفة مغربية تقليدية، من أنواع المعجنات، يتم تناولها مع الشاي والعسل على وجبة الإفطار أو مساء.