صدرت رواية “بعيداً عن السّماء” للروائية جمالات عبد اللطيف عن دار شعلة الإبداع للطباعة والنشر
تقع الرّواية في ١٧٤ صفحة من الغلاف المتوسط،
غلاف الرّواية احتوى على لوحة تتكون من رجل تتوسطه رأس امرأة، ربما يعني ذلك الاحتواء الّتي كانت تنشده البطلة، أو لربما إلى نظرة المجتمع إلى المرأة الّتي يرى بأنها لا تستطيع العيش دون احتواء الرجل لها.
جاء الإهداء إلى مجموعة كبيرة من الصديقات والزميلات، وإلى روح شقيقة الكاتبة بدور عبد اللطيف وصغيرتها رفيدة علي أحمد.
تبدأ الرّواية بتنويه مهم، تقول فيه الروائية أن هذه الأوراق أرسلها لها الشاعر والمثّال علاء أبو خلعة، وقد كُتب على المظروف يصل إلى الأستاذة، جمالات عبد اللطيف، فهل هذا التنويه يعني أن الرّواية حقيقيّة وأن أحداثها قد أخذت مجراها على الواقع بالفعل، أم هي خدعة روائية ذكيّة لشدّ انتباه القارئ وزيادة فضوله لمواصلة القراءة في أروقة الرّواية؟!
تبدأ الرّواية بتاريخ الثامن والعشرين من (نوفمبر ألفان واثنان)، حين قررت مريم الهروب من البيت لتلتحق بحبيبها يوسف، ولتتزوج من رجلين في آن واحد، أحدهما؛ يوسف محمد السيد هريدي وسيعقد القران بحضور عمه مصطفى السيد هريدي في مقام الحسين وذلك بعد صلاة العصر، وفي مساء اليوم ذاته ستتزوج من الرجل الآخر وهو يوسف عماد زخاري، وسيتم الزفاف في كنيسة العذراء بشبرا.
هكذا بدأت الروائية بسرد الأحداث، مقدمة ذكية تحث القارئ على الاستمرار بالقراءة دون توقف، يدفعه الفضول إلى معرفة من هذان الرجلان اللذان ستتزوجهما مريم في نفس الوقت.
مريم الفتاة الّتي رفضت الخضوع إلى إجبار أمها لها بالزواج من زوج أختها الّتي توفت أثناء ولادتها الخامسة، رغم تحذير الأطباء لها. لكن أسرتها لا تستمع إلى رغبتها، مما دفعها إلى التفكير بالهروب مع يوسف؛ الشاب الذي أحبته بعد التقائها به في المستشفى الّتي تعمل فيها. تأخذنا الأحداث بجمال سرد الروائية الممتع حتى النهاية، فنتعرف من خلالها على مجموعة من الناس الذين صادفتهم مريم في رحلتها الشاقة الّتي تتصدى فيها لرغبة أسرتها في الزواج رغما عنها من زوج أختها المتوفاة، ونتعرف من خلال هذه الرحلة على معاناتها مع المجتمع الذي أراد أن يفرض عليها مستقبلاً لم تختره بإرادتها، قررت مريم بكامل إرادتها وقواها العقلية أن تتحدى هذا المجتمع وتقف أمام بعض العادات والتقاليد الّتي تقف عائقاً أحيانا أمام قرارات الفتاة، باعتبارها العنصر الضعيف الذي يجب أن تسلب إرادته من أي قرار، فترى ماذا كانت النتيجة؟!
ثيمة الرّواية قد تبدو مكررة، لكنها رغم ذلك، استطاعت أن تكون متجددة بسبب المعالجة الروائية المتميزة الّتي اتبعتها الروائية، فهي تتعرض إلى أحد القضايا الاجتماعية الّتي تعاني منها مجتمعاتنا والّتي لن تنتهي يوماً، حيث اعتبار الفتاة الضلع القاصر الذي لا ينبغي عليه أن يكون له حق الاختيار وتقرير المصير وإبداء الرأي الخاص به، بل عليه الخضوع إلى قرارات العائلة، وإلا فإن العار سيكون مصير هذه العائلة حسب الاعتقاد إن لم تنفذ قراراتها الظالمة. كما تتعرض الرّواية إلى موضوع الزواج بين المسلمين والمسيحيين وتبعاته وتأثيره وتداعياته على الأفراد والمجتمع.
الحوارات في اللغة :
اعتمدت الروائية في معظم أحداث الرّواية على الحوار الداخلي، وكانت هي الصوت الوحيد المتحدث، أي أنّ السرد جاء بضمير المتكلم العالم، تخلل الأحداث بشكل مقتضب بعض الحوارات الخارجية الّتي دارت بين مريم وبقية أبطال الرّواية، لهذا لم نتعرف على الأبطال من خلالهم، بل تعرفنا عليهم من خلال مريم فقط.
لغة الرّواية :
جاءت اللغة سلسة قوية متينة شاعرية تتبع السهل الممتنع، وقد
طغى جمال لغة السرد الذي استمر إلى نهاية الرّواية، بحيث لم تكن هناك فقرات مملة حتى في المواقف الّتي لم تكن تفاصيلها مهمة، أو حتى لو تم تكرار بعض المشاهد، فجمالية اللغة أخذت انتباهنا بسحرها وشاعريتها حتّى النهاية، لدرجة أن وصفها للقمامة الّتي قد تنفر منها النفس، جاءت شاعرية جدا بحيث جعلت القارئ يستمر بالقراءة بكل متعة.
ووأد أن أنوه عن رأيي الشخصي في أحد الأمور الّتي أجدها مهمة هنا؛ وهو أن لغة الروائية كانت بعيدة عن الابتذال، فقد استطاعت الولوج في مواضيع حساسة بلغة راقية لا تخدش الحياء.
ورد في الرّواية فقرات عديدة فيها تناص مع سورة مريم ففي الصفحة على سبيل المثال،١٢٧ تقول مريم:
“وكان قد أوحي إلي من اللا ادري، أن امسحي دمعك، وارفعي وجهك، وافتحي فمك، يساقط عليك أرغفة طرية وفاكهة طازجة مسكرة، وزجاجة مياه غازية وأخرى معدنية”.
تقنيات السرد :
أسلوب السرد كان مشوقاً، وقد استطاعت الروائية الانتقال من حدث إلى آخر بكل أريحية، اعتمدت الروائية على أسلوب السرد الخطي حيناً، وتقنية الاسترجاع (الفلاش باك) حيناً آخر، واستخدمتهما ببراعة، كما استطاعت أن تربط الأحداث من المقدمة والوسط ونهاية الرّواية بأسلوب سلس ذكي، فسارت الأحداث وتقدمت بسهولة دون إرباك للقارئ، عنصر التشويق كان طاغياً كما أسلفت، بحيث أنني قرأت الرّواية خلال جلستين متتاليتين.
الرّواية تحمل رسالة مجتمعية مهمة وقيمة، وهي إضافة ثرية إلى رفوف الأدب في مكتباتنا العربية.