تقديم:
مثل الماء العذب نَرتشف حروفه الباذخة..
للشِّعْر حينما يتلوَّن بالعشق الصوفي أن يتراقص موجات وشطحات، وشطحات الدرويش لصيقة بشخص الشاعر مُغايِرة للشطحات الأخرى لها ألوانها وأطيافها وبريقُها، واقتران الشطحات بالدرويش يشي بمعمار خاص للكتابة والتَّلقي.
ونعلم أن الشطحات هي الحركات، وهي كلمات تقرع السَّمع، تأتي في مُنتهى الانسيابة والتَّدفُّق، ولما كانت الكتابة لذة وانتشاء وسفر متْعِبٌ حيناً، يسيرٌ حيناً آخر.
فهذا يجعلنا نرتقي من خلالها في مدارج السَّناء ونسمو بأنفسنا، فأبيت بدوري إلاَّ أنْ أرتقي في مدارج حروف الشَّطحات الدرويشية، رغم أنَّني موقنة أنَّني لن أستطيع الإمساك بعبير الحروف، فعذرا يا حروف إن لم أستطع خلخلة المعنى الثَّاوي فيك، فلست سوى عاشقة للحرف ترتجي الاغتراف من بعض دررك الثمينة التي لا تصدأ ولا تنْتهي.. عميقة هي الشَّطحات، كثيرة هي دهاليزها..
الشطحة الأولى ارتأى صاحبها عنونتها بـ “أوَّل الخَطْوِ” ص 3، وفيها يكشف لنا الشاعر “سامح درويش عن صعوبة الإمساك بالقريبة البعيدة التي لازال يتَهَجَّى إليها السبيل وتفِرُّ منه يقول:
أنت هُنا فيّ،َ
نافرَةً مثْل قصِيدَة نثرٍ،
وأنَا هُنا فِيكِ أتَهَجَّى أوَّلَ خَطْوِي،
خَارِجَ دائرةِ الصَّحوِ،
إني أرى.. إنِّي أرى.
فالرؤية هنا تتعالى عن ما هو حسِّي وفيزيائي.. لأنَّها مستحيلة لكونها جعلت صاحبها يتعثر ولا يقْبِضُ على الشيء المُشتهى وعلى المُبتغى. هو يُدْرِكُ أنَّها تسكنه، قريبة منه، بَيْدَ أنَّه لا يُبصرها.
يقول في الصفحة 3 في أوَّل الخَطْوِ:
أنت هُناكَ فيَّ،
وأنا الأعمى لا أرى.
هو السِّكير الذي يحْتسي كحول القواميس، وهي ذكرى تعبره وتغمره بضيائها الوضَّاء، فيغْدُو جريحاً بعِطْرِها.
يقول في النص الثاني “ذكرى”:
مثْل خِنْجَرٍ وضَّاءٍ
تلْمَعِين في خَلدي
من حينٍ لحينٍ،
فأنْزوِي جريحاً بعِطْرِكِ،
أحْتسِي كحول القواميسِ، ص 4
ما أعذب الحروف حين تَلْبسُ ذات الشاعر ويلْبَسُها وتتوحَّدُ الذوات وتنصهر وتنبثق الإشراقة، فالشاعر يُقِرٌّ ويعترف أنَّه يصغر أمام حبها ويُذَلُّ حينما يُرْشِده حبها وتسكنه لوعتها وصبابتها.
يقول في نص “إشراقة”:
ذَلَّنِي حُبُّكِ .. وحْدهُ ذَلَّنِي
فاخْتَليْتُ فيكِ أحْتسِي لَذةَ الذُّلِّ،
حتَّى ذابَ في ظلِّي ظِلُّكِ..
هو التماهي والتَّوحد كما أسلفنا يغْمُر الذات الشاعرة ويجعلها تُعبِّر عن شِدَّة الجوى الذي يكتنفها وعن مُنتهى لوعتها.
إن الشاعر أصبح ذليلا بسبب الحب المُتسامي الذي دفعه إلى الخُلوة.
إنَّني أَشْهدُ أنَّ حُبُّكِ ذَلَّنِي،
وأنَّ مُنْتهى لَوْعَتِي فِيكِ،
أنْ لا ذُلَّ يُشَدُّ إليْهِ القَوْلُ إلاَّ ذُلَّكِ
هو الشاعر المسافر في أدغال اللغة على مهل من أجل أن ينبعث شعرا راقيا، إذْ ينْدثِرُ ويذوبُ في محراب الهَمْسِ الشَّفيف.
يقول في اندثار ص 6:
لا تَسْتعْجِلِيني،
دعيني أتَلاَشَى
شَهْقةً شَهْقَةً في بُؤبؤيْك،
عسى أنْ يَصْلحَ فيكِ انْدِثَارِي
ومن فعل الاندثار والتَّماهي والتَّلاشي إلى فعل الكينونة والانوجاد، هو المعترف بالعشق يُقِرٌّ بالكينونة من خلال الكلمات..
فلوْ لم تكونِي،
لَدَغْدَغْتُ قلبي وكُنْتُكِ،
ولوْ لمْ أكُنْ،
لَنَفَخْتِ في الكلمات وكُنْتِنِي
مَعاً أتَجَلَّى،
كُلَّما هَزّني وصْلُكِ، فدونما شك فهو يحيا ويعِيشُ من خلال الوصْلِ ص 7.
ينحُو الشاعر “سامح درويش” منحى العاشقِ المُتصوِّف فيُصابُ بالإغْماءة كُلَّمَا بدَتْ الأشعار شفيفة، ويسبح في يمِّ العشق ويَعْزِف ألحاناً مقرها القلب.
كما يتمنى أن يفنى في الذات الأخرى ويُبْعَثُ حُمَّى في نص موسوم بفناءٍ ص 11.
يقول:
وُجُودُكِ يعْفِينِي من وَعْثَاءِ الوُجُودِ،
فلاَ تَرُدِّي مِزْقَةَ الفَرَاغِ.. ذَاكَ أنَا،
فِيكِ أَفْنَى وفِيكِ أُبْعَثُ حُمَّى.
هي شطحات العشق تُهيمن وهذا مانستشفُّه من المعجم الذي وظَّفه الشاعر في معظم شطحاته ” نصوصه”: (الهوى، طقْسُ العناقِ، الشَّفَقِ الحارق للعِشْقِ، غيابَةِ الجُبِّ، عِشْقُكِ، لَدَغْدَغْتُ قَلْبِي – وَصْلُكِ…الخ).
يُخاطب الشاعر منذ بداية الديوان الشعري الذي ارتأى له كما ألمعنا آنفاً عنوان كتاب: “شطحات الدرويش” محبوبة لأجْلِها يَحُوشُ أناشِيده في دوارن الصفحة 12، ورد مايلي:
مُهْطِعاً،
أَحُوشُ أَناشِيدِي سِرْباً إليكِ،
كما أنَّها بصيرته وبصرَهُ
أنْتِ بصِيرتِي حِينَ يعْمَى الطَّريقُ،
وأنت البصرُ
فالشاعر يعترف أنَّه لا يجْسُرُ العيش إلاَّ في فيئها وإلاَّ أُصِيبَ بالاختناق، ويؤكِّدُ أنَّه يسْعى إلى الفناء في الذات المحبوبة وهذا ينمٌّ عن الاتحاد بين ذات الشاعر والذات الأخرى.
جاء في نص ” استعطاف” الوارد في الصفحة 16:
..
إنَّ غاية أمري،
أنْ أفْنى فِيكِ عَلَى رِسْلي.
وأنْ أصْحُو فِيكِ وأناَ فِي غَايَةِ السُّكْرِ.
ويقِرُّ صاحب الشطحات أيضاً أنَّه أُصِيب بالعمى جرَّاء العِشْقِ، فتَحَسَّسَ عطر المعشوقة وقد غَشِيَّهُ،
فأَسْمَعُ عِطْرَكِ يَغْشانِي
نورُ عِشْقِكِ أَعمانِي
هو الولِهُ العاشق الذي تُذَوِّبه القصيدة ويغيب عنه العشق عندما لا تُشْرق، لذلك عَمِدَ إلى توجيه أسطرلاَبَه صوب التي تمِيل إليها نفْسه ويسْتديرنحوها وِجْدانه.
يقول في ” فلك ” ص 19، النص 16:
فهَا أنَا أَتَفَانَى في الدَّورانِ حَوْلَكِ،
حتَّى يَسْتَدِيرَ وِجْدانِي
إسطرْلاباً لَكِ.
أشعاره تأتي معتقة تنفذ بسرعة الضوء، تخترق البصر اختراقاَ وتستوقف القارئ مُطوَّلاً.
يكتب الشاعر بفؤاد عاشق ثمل، مُنشد يسبح في بحور الشعر الرَّحبة،هو ليس في حاجة لمكَبِّر الصَّوت..هو يكتب بالقُبل، وهذا لا تثريب تعبير مجازي يشِي بأنه شاعر عاشق ومتيم لكن بالمعنى الصوفي للعشق، فغزله عذري وهذا ما يتبدَّى من نص ” إنشاد” ص 56.
يقول:
لَيْسَ لي سِوى عشْقِي،
وأنا أدور أُنْشِدُهُ،
..
إلى قوله في الصفحة ذاتها:
لا حاجَة لي بِمُكَبِّرِ الصَّوْت،
لأنَّني أَكْتُبُ بالقُبَلِ.
هي شطحات قِوامُها الابتهال، اتَّكَأَتْ على أشعار القصيدة الرَّباوية، فتجلت في شكل دندنة عزفها الشاعر على هجْهُوجه الذي سوَّه بيده..
يُعلنُ الشاعر أنَّه سَوَّى هَجْهُوجَهُ (آلة موسيقية) انطِلاقاً من حِبال الهايكو والقصيدة الرَّباوية .
في النص المعنون بـ “دنْدنَةٌ “ص 32:
مِن جِلْد قَصِيدَةٍ ربَّاوِيَّةٍ،
وَحِبَالِ الهَايْكُو،
سَوَّيْتُ هَجْهُوجِي بِيَدِي.
دَدَنْ.. دَنْ.. دَدَنْ..
هلْ تسْمَعِينَ هَذِهِ الدَّنْدنَة،
هِيَ لأجْلِكِ تَسْكُنُ أَشْعَارِي.
هو القاموس الصوفي تنِمُّ عنه المفرات التي تخللتها النصوص: (خلْوَةٌ – الروح – ابتهال- الشَّطح الرَّشيق…).
وهو قاموس يُقَرِّبُنا أكثر من العنوان الذي ارتأه الشاعر لنصوصه التي يمكن أن تُدرج في فن “الهايكو” أيضا، وإن لم يتم التصريح بذلك.
يعتبر الشاعر نفسه وذاته دُونَ الجسد رشيقاً، شفيفاً، وأنَّ الجسد لا يَعْدُو أن يكون مجرد معطف تتسربل به رُوحَهُ.
يقول في الصفحة 33 في النص الموسوم بعنوان “جَسَدٌ”:
رَشِيقاً أَدُورُ، وَهَذا جَسَدِي،
مثلَ مِعْطَفٍ،
على ذِرَاعِ الرُّوحِ أَحْمِلُهُ.
فكل ما يهمه هو تلك الروح التي يزْدَحِم بها والتي تكون بمنْأىً عن الجسد خفيفة.. فتأخذه بعيداً وتسمُو به.
ما يزال الشاعر يسبح في عوالم الشطحات، إذْ يُغْمِضُ فؤاده بسبب نور العشق الذي تسَبَّب له في العمى، والعمى ماهو إلاَّ عمى رمزي، لأن الذات الشاعرة عميت من شدة الكلف والعشق، فسَمَتْ روحها وانبَثَقَ نور العِشْقِ وغَشِي الفُؤاد.
يقول في إغماضة ص 17:
لَيْس لي حَسِيسٌ سِوَاكَ،
تُسِلِينَ نُورِي،
فَأسْمَعُ عِطْرَكِ يَغْشَانِي.
نور عشْقِكِ أَعْمَانِي،
سَأُغْمِضُ قَلْبي حتَّى أَرَاك،
الشاعر يتَّكِئُ على الاستعارة لرسم صورة الذات المسلوبة العاشقة المتحدة مع الذات المحبوبة المَرْغُوبِ فيها.
والتي لا تظهر في حالة الصَّحْو.
شْعْر الشاعر يُقَطِّرُهُ كلَّما جرحَهُ الهوى، واسْتبدَّتْ به الوحشة، فهو يهيم في بحر الهَوى والشَّوْق يحملهُ إلى التي تشكِّل عِشْقه، وسماءَهُ الحَيْرى، فالذات المعشوقة ترتط بما هو علوي سَمَاوِيٌّ.
وَلَعَلَّ ما يَأْسِرُنا في كتاب “شطحات الدرويش” للشاعر “سامح درويش”، النَّفحات الشِّعرية الْمُوَقَّعة بنبضات القلب الوَلِه الذي ينسج القصائد النُّورانية والأوراد.
يعترف الشاعر أنَّ الشِّعر تُجسِّدُهُ تلك التي أدْمَتْ الفؤاد وجعلتْهُ يتوهَّجُ ويتقدُ عِشقاً.
يقول في نص ” قلب منْ حَرِير”:
مُثْخَناً بِكِ،
أَتَعَكَّزُ قُبْلَةً غائِرَةً
جِئْتُكِ سَيْراً على الأحلام،
فماَ الشِّعْرُ مَوْلاتِي
إنْ لمْ يَكُنْ أنْتِ !؟. ص 42.
يُضيف الشاعر أنَّ الشِّعر يفقِدُ معناه إنْ لمْ يُكْتَبْ على خُدود الجمْر، هو عميق الإحساس، لذلك جاء شعره موغِلٌّ في التَّصوُّف.. يُلْبِسُ الحبيبة لباس المُتَصوِّفة النَّاسكة.. فهي سبيله إلى معرفة اللَّه، فهي النَّبع والمَصَبٌّ ص 44.
وهذا ما تَشِي به أسطر النص المُعنون بـ “جدْوَل ٌ مِنْ ضِيَاءْ “.
مِنْ وحْشَتِي أبْكي
فأُحِسُّكِ لأْلاَءَةً في الدَّمْعِ،
فأيُّ معْنًى بَعْدُ للشِّعْرِ،
إنْ لمْ أَكْتُبْهُ علَى خُدود الجَمْر،
..
إلى قوله:
أَسْكَنْتُكِ لُغَتِي،
حتَّى تَدُلِّينِي على الله،
..
الحروف تتلوَّن وتتنمَّق بالنُّور والضِّياء فنَرْتَشِفُها بكل لذَّة وذائقة جمالية ونحتفي بها.
الشاعر والمساء سيَّان فلا تمييز بينهما فمنْهُ يُسْتهل اللَّيل، وقلبه مطْلَعُ القمر، هو يدْعُو محْبُوبَته لِهَدْهَدَةِ المساء، وهذا ما يتضح من نص “أنا المساء” ص 46.
أَنَا المسَاءُ،
بشِفاهِ الصَّبابة أرْشَفُك
منْ كأسِ الأَصيل..
رشْفةً رَشْفَةً،
..الخ.
ورد في ص 47
أناَ المساءُ،
كَأيِّ عَاشِقيْنِ،
وحيداً أَغْرَقُ في العِنَاقِ
أَدُورُ حوْلَكِ فِيَّ
نِصْفِيَ بَحْرٌ،
ونِصْفِيَّ الثاني سَمَاءْ.
الملحوظ أن هناك العديد من المفردات التي تكررت في الديوان: (شَوْقِي- الشمس- إشْرَاقِكِ- تَلْبَسينَنِي – الشوق-أقباس- قيثار شَاعِرٍ غَجَرِي- وَهَجِي- النَّيازك).
الشاعر يدور في فَلَك العشق والنُّور والشَّوق والوَجْدِ، وبثبات هو يُنْشِد ويُصَفِّرُ ويَهُبٌّ ويدُورُ ويَشْهَقُ فيتَدَفَّقُ شعره كشلال متدفِّق يغْمُرُهُ النور والضِّياء.
وما شَهِيقُهُ وإنشادهُ وهُبُوبَهُ وحُبُورَهُ وصَفِيرُهُ وإنشاده إلاَّ لُغته الصوفية العاشقة التي تتألَّقُ في شكل شطحات درويشية، يغْمُرُها بالسُّموق، فيجعلها تتراقص وترتسمُ شِعْراً باذِخاً سانِياً.
حُرُوفُهُ تَتَسَلَّلُ كنغمٍ، فيُشْعِرُناَ بالتَّحليق وبالانطلاق، وكأنَّه يعزِفُ على قيتارة شذى الرُّوح والوِجْدان الغارق في الوَجد والكلف.
ويخْتِمُ الشطحات بنص”تدوين”، هُو يُدوِّن لوعتَهُ بالنَّثر من خلال شفتيها، هاته الذات التي تُوحِي لهُ بلغة العِشْق وتَبْعَثُهُ شاعِراً مُتَصوِّفاً يُدَوِّنُ أشْعَارَهُ بِشَغَفٍ وشوِقٍ وعِشْقٍ.
يقول في ص ” تدوين”، النص 55:
شَفَتَاك تَكْفِينِي
كيْ أُدَوِّنَ أَشْعَارِي،
إنِّي أَكْتُبُ بالقُبَلِ.
شَفَتَاكِ تَكْفيَانِ
إنِّي أَكْتُبُ لَوْعَتِي بالنَّثْرِ.
وما بين التَّمني والرغبة في الحلول في الذَّات المرغوبة “الاتحاد معها”، تنكتب سطور تَحْفل بالجمال.. إذْ ينْتَقِي الشاعر عباراته بكل دِقَّة لأنَّه في حضرة مَوْلاتِهِ التي يَهْرَوْرِقُ في حضْرَتِها قارورةَ شعرٍ، فيصِيرُ كالعِطْر غايته أنْ تَشُمَّه وتَحْتَضِنُهُ ص 64- 65- نص ” اِهْرِيراقٌ”.
يَسْكُرُ الشاعر، وما السُّكر إلاَّ سكر الروح، هي القصائد النورانية اتَّسع لها كتاب ” شطحات الدرويش”، فاستحوذت على الأفئدة وخلبت العقل. يطير الشاعر ويحلق بأجنحة الوَجْدِ.
هو الشاعر الصوفي الغارق في الشَّوق والوَجْد والاحْتراق، المجْبول على رسم خُيوط الجمال.
في هذا الديوان الذات الشاعرة تكشِفُ عنْ توهج العواطف، فالشاعر يرْنُو إلى الذات الأنثوية المجسدة للتَّسامي، بعيداً عن الصورة السلبية للمرأة/ الأنثى.
وانطلاقاً مما سلف، أمْكننا القول كتاب “شطحات الدرويش” يختزل رحلة روحية، لأن الشاعر يُمَجِّدُ الذات المعشوقة ويرْتَقِي بها، فهي النور والضِّياء، وهو العاشق العابد والناسك، فجوانحه لا تهدأ فهو المتيَّم الولهان السَّابح في يمِّ تجربة عشق روحية راقية.
وتأسيساً على ما تمت الإشارة إليه أيضاً، ينزع الشاعر إلى المحبوبة ليكْشِف لنا عن كينونته من خلالها وعَبْرها، فهُو لنْ ينْوجِد إلاَّ من خلالها، فالذات الشاعرة تَهْفُو وترنو للتماهي مع الذات الأخرى “الاتحاد معها”، والأنثى المحبوبة لا تعدو أن تكون سوى رمزاً يلبسُه الشاعر ويتماهى فيه ليُعبِّر عن سُمُوِّ أحاسيسه.
قد يتوهَّم القارئ أن الذات المعشوقة إنسانية وهذا ما ينبغي استبعاده فالشاعر يتجول في الجو الروحاني، بعيدا عن العالم المادي المحسوس..
استنتاجات:
من خلال هذا الكتاب الشعري “شطحات الدرويش” للشاعر “سامح درويش”، نلْحظُ الفيض الجارف من الأشواق والمحبة الذي يحرق الذات الشاعرة.
فالأنثى التي تأخذ بلُبِّ الشاعر ما هي إلاَّ أيقونة للتذليل على الحب السامي والمنظور الإيجابي للأنثى بصفة عامة، فالأنثى روحية آسرة ينبثق نور الذات الشاعرة من نورها، وهذه الأخيرة حينما تسْكُرُ تتيه وتضيع فيها لأنها الروح المقدسة التي تمتلك كَيَان الشاعر العاشق. ينتزعُنا الشاعر انتزاعاً وهو يبوح بما في دواخله من أحاسيس ومشاعر.
فالقارئ/المتلقي السطحي للكتاب ليس بِمُكْنتِه الوصول إلى حقيقة أحاسيس الشاعر، فهو المتصوف/ المتعبد، وهذا مانمَّتْ عنه مجموعة من العلامات والرموز المُوظفة بين دفتي هذا الكتاب.
عموماً، الكتاب هو رحلة روحية يكشف من خلالها الشاعر عن مدَى حبه للمخلوق “المرأة”، إذا تجلى لنا البوح الشفيف الذي نَحَا بالذات الشاعرة إلى التغني بالأنثى، إذْ توظيف الأنثى هنا يظل مجرد شفرة أستيطيقية، تنِمُّ عن مدى انسجام الروحي بالمادي.. هي الأنثوية الآسرة ترسمها أنامل الشاعر العاشق من خلال نظرة عذرية تسمو بالذات المعشوقة وترتقي بها في سموات السَّناء ومدارج السراج الوضَّاء. فارتقى بالمرأة ككائن جميل إلى المقدس والنوراني من خلال إشتغاله على اللغة الاستعارية/ الرمزية الشيء الذي جعلنا نستشف مدى افتتانه بصورة هذا الكائن الجميل من منظور الشطح والتصوف.
إنَّ هذا الكتاب يحفل بمجموعة من الصور التي يجب على القارئ تفكيكها لاستكناهها، إذْ الإمساك بمكنون الشطحات/ الشطح الذي جعل الشاعر يعيش حالة وَجدٍ عنيف يُحتِّم على المتلقي أن يكون على اضطلاع بالأدب الصوفي.
وخلاصة القول، الشاعر دخل في حالة غيبوبة وسُكر بالمفهوم الصوفي، فامتطى الشطحات حتى ثمِل وبلغ درجة السُّكر واستعان بالإشارة والترميز، فجعل المرأة ترمز إلى الجمال المطلق.. إذْ تكتنِفُ الذات الشاعرة حالة الجَوى والاتحاد مع الذات المحبوبة من أجل الظَّفر بالجوهَر النَّقي “فالمأمول هي ذات الخالق المنزه عن كل النقائص”.