ردا على هنري كيسنجر – د. محمد الشرقاوي

0
405

عندما يتفاءل دعاة المثالية، فلا خوف على غدك، لكن عندما “يتفاءل” أنصار الواقعية السياسية، فابحث عن تأمين حياة إضافي!
سبب هذه المقارنة مقال جديد نشره وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بعنوان: “جائحة فيروس كورونا ستغيّر النظام العالمي إلى الأبد” في وول ستريت جورنال قبل يومين، يدعو فيه إلى ثلاث خطوات ينبغي القيام بها عقب الخروج من الحجر الصحي حسب رأيه:
أوّلا، الحاجة لتطوير تقنيات جديدة لمكافحة العدوى واللقاحات المناسبة لمجموعات كبيرة من السكان (وهو يتفادى عبارة “البشرية جمعاء” أو “كافة سكان الأرض”.
ثانيا، شفاء الجروح التي يعانيها الاقتصاد العالمي.
وثالثا، ضرورة حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي، وأنّ على الحكومة المستنيرة أن تقتنع بتوفير “الأمن والنظام والرفاهية الاقتصادية والعدالة” على حدّ تعبيره.
لا خلاف على الخطوة الأولى التي تقتضي تطوير البحث العلمي والحماية من الأمراض والأوبئة، لكن الخطوتين الثانية والثالثة وفق اجتهاد كيسنجر تثيران عدّة أسئلة ينبغي الحسم فيها قبل الخوض في ترميم النظام الاقتصادي الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه حاليا بين الحجر الصحي وانسداد آفاق المستقبل المعيشي للبسطاء من ذوي الدخل المحدود. ويبدو لي أن كلمة “شفاء” الاقتصاد العالمي تنمّ عن مغالطة ضمنية، وكأن الطبيب يقول للمريض إنك ستتعافى من مرضك من خلال طول استشراء المرض ذاته في جسمك. فكيف تصبح النيوليبرالية مؤهّلة لعلاج ذاتها من أمراض الهرولة نحو الربح وتعاظم رأسمال على حساب مصلحة الفرد العادي والأسرة المعوزة والمجتمعات الفقيرة؟
أخشى ما أخشاه أن نقع في شرك الخطوة الثالثة التي يقترحها كيسنجر بأن تتولّى الدولة، دولة بيع المؤسسات العامة إلى أصحاب الثروات وملاك الشركات، دولة نقل الصحة والتعليم إلى القطاع الخاص إيمانا منها بأن المقاولات والشركات الخاصة هي الحلّ، دولة الصفقات وليس القيم، أن تتولى توجيه السفينة في المرحلة المقبلة. أسوأ مكر يُضمِره كيسنجر وغيره من المتشبعين بمنطق المصلحة والقوة والواقعية السياسية هو أنهم يعرفون عزف اللّحن المناسب في الزّمن المناسب، فتطال السمفونية الماكرة أذهان الشعوب وطأطأة رؤوسها جيلا بعد جيل، وكبوة بعد كبوة للنظام الاقتصادي القائم. هكذا يتقدّم كيسنجر إلى وسط المسرح في عرض السمفونية الجديدة ليقود جوقة العازفين مبكّرا على وتر “الحكومة المستنيرة” والمطبّلين حماسيا على إيقاع توفير “الأمن والنظام والرفاهية الاقتصادية والعدالة”. ألم يكن توفير هذه الخدمات والغايات هو أصل فلسفة العقد الاجتماعي التي لوّحت بها جمهرة المنظرين الغرويتيوسيين والهوبزيين واللوكيين والروسويين (من غرويتيوس وهوبز ولوك وروسو) وغيرهم لاحقا من منظري النيوليبرالية والعولمة؟ هل نلغي ترانيم أربعة قرون من أدعية “العقد الاجتماعي” حفظه الله وأدام نعمه ومدّد في عمر حفيدتيه العولمة والنيوليبرالية، لنبدأ ابتهالات جديدة بانتظار أن يحلّ عصر “الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية”؟!
حان الوقت لوقف العدوى مسّبقا لاجتهادات هؤلاء الليبراليين الحربائيين، وأن يتمّ مسح الطاولة بالكامل لبدء تقييم جرّيء وصريح حول أخطاء الماضي وتعنّت النيوليبرالية المحتفى بها في الغرب وفي الشرق. لن يستقيم بناء المستقبل إلا عندما يصرّ المجتمع المدني العالمي، ونشطاء المنظمات غير الحكومية، والنخب المثقفة الملتزمة بضمير شعوبها، ودعاة حماية ما تبقى من الإنسانية، ومن بقي غير ملوّث من حقبة اليسار بسائر مشاربه الديمقراطية والاشتراكية والتقدمية والعلمانية والحداثية، على أنّ الوقت قد حان لدحض هذه النيوليبرالية كخطاب أيديولوجي مفتعل وليس ما قصده آدم سميث بعبارة الرأسمالية الأخلاقية ومنحى الحرية من خلال مقولة “دعه يمرّ، دعه يعمل”.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here