مثلما أن هناك ذبابا إليكترونيا يتتبع كل ما نكتبه ونننشره سواء على صفحاتنا أو في مواقع مختلفة، هناك ذباب إبداعي يتعقب كل خطواتنا ومساراتنا الكتابية والشعرية، لكن سقف وعيه بالحرف لا يخوله أن يتجاوز عتبته، فلا يعلم بما يجري في عوالم لغتك ونسيج صورك وعالم فكرك الذي قطع بك أشواطا لا يمكن أن يعرف عنها إلا ملامح كتابتك الظاهرية، فيحاسبك على ظاهر حرفك أو بالأحرى على فهمه المتواضع جدا من بحر طرحك، ولا يجد من كل ما كتبت سوى طعم الملوحة في فمه فيتقيؤها لعدم قدرته على هضمه.
أمثال هؤلاء الشبه مثقفين وشبه الفنانين الذين اكتظت الساحة العربية بهم سواء داخل البلدان العربية أو في المهجر، يظنون أنهم قد أصبحوا قوة بعد أن أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي للأسف منبر من لا منبر له، وسمحت لكل تافه بأن يحشر نفسه في مجموعات المثقفين والمبدعين الحقيقيين، فتراه في عالمه الافتراضي ينتقد هذا ويناقش هذا ويعطي موقفه “الجاهل” من ذاك، ويعبر بآرائه الغبية فيما لا يفهم أصلا ولا يعي ولا يمكن أن يستوعب. فإذا كانت له اتجاهات سياسية مع حزب فاسد ما مثل إنسانيته، أو انتمى إلى طائفة متطرفة تكفيرية ما وحصّل الأموال والدعم منها، وغطت منابر إعلامية لا صيت لها بهرجة أمسياته وحفلاته الباذخة التي توفر فيها كل اللوجيستيك وكل الأكل والشرب الذي يشبه بذخ قاعات الأعراس وليس قاعات الثقافة التي وحدها لم تكن حاضرة في هذا العبث، ظن أنه قد حقق النجاحات وقد اصطف حول فتات موائده أشباه المثقفين والشعراء الذين تسمعهم فلا تجد لهم شعرا ولا تحس لهم بذائقة إبداع أبدا إلا من رحم ربك وقد وجد نفسه في حضرته خطأ.
لا يمكن أن يطلق هذا النوع من أشباه المثقفين العبثيين الذين لا يخدمون في واقع الأمر إلا أجندات دول ومنظمات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تنشر عقيدة الكراهية وفكر التحريض على السلم وآراء التكفير ورفض الآخر غير المعمم اللاطم على صدره، الشتام المشاء بنميم، ما لم يوفر حسن ختام مهرجاناته التي عادة ما يعطيها صبغة دينية أو يربطها بحدث اجتمعت عليه قلوب المسلمين، فلا يرتاح له شيطان نفس حتى يفجأهم بشرّه محاولا زرع بذور الشقاق والفرقة وهو يتباكى على مقتل الحسين أو وهو يتغنى بالنبي صلى الله عليه وعلى آله (وأضيف أنا من عندي: وصحبه). ولا يتوانى قبل كل مناسبة أن يستفزك ذباب ضميره الخرب فيتصل بك عبر كل وسيلة صوتية أو كتابية ليعيد عليك أسطوانته المشروخة حول ضرورة جمع الشمل وتوحيد الرؤى وتوحيد البرامج، فإذا حدثته بالمنطق والحب -وذلك دأبنا مع الجميع- فرض عليك وجوب أن تحضر نشاطاته المشبوهة، فإن اعتذرت بسبب التزاماتك مع جهات أكثر شفافية واحترافية -وذلك حقيقي- انقلب وتولى عابسا غاضبا في وجهك واعتبرك كما كل مرة بل وكل المرات السابقة، فكأنه يبحث عن عدو بشتى الطرق، فإن نجح فيما عزم عليه من بهرجة “ثقافية” نسب نجاحه إلى نفسه ضدا عليك ورغما عنك، وإن فشل اتهمك صراحة بأنك أنت من عرقلت مساره الفكري والإبداعي ومنعته من تبليغ رسالته إلى الناس. وأنت في واقع الأمر منكفئ على نفسك مشتغل على مشروعك ملتف حول العقول المهجرية القليلة التي تدرك معنى الثقافة والفكر، وتدرك جيدا أنها بضاعة عشاقها قليل. لذلك فالعاملون في حقل الفكر والإبداع الأصيل رغم قلتهم وقلة من يحضرون ندواتهم فإنهم يعلمون جيدا أن رسالتهم أبلغ في صنع الهويات وتغيير الدفات عكس أنشطة هز الأرداف ومد حبال الصوت بالغناء والطرب، رغم أن الفن سلاح ذو تأثير، لكن من زانه وطعمه بالرؤية والكلمة الهادفة وجعله رسالة، وهذا أمر لا يتيسر للجميع.
الأجمل في كل هذا هو فشل مثل هؤلاء في استقطاب الكفاءات المتميزة، فتراهم في كل مناسبة يتوجهون بأساليبهم المراوغة إلى استقطاب بعض أفراد محيطك المقربين، وبالرغم من أننا تجاوزنا مرحلة الاستقطاب الشرس، وبالرغم من أننا نعي وندرك أن المجال مفتوح لكل شخص بدون قيد أو شرط أن يشارك من شاء ويتعامل مع من شاء وأن يعرض إبداعه على أي منبر شاء، لأنه وبكل بساطة لا يخشى على مثقفينا الذين يعرفون من ومن وأين وكيف ولماذا؟ ولأنهم منفتحون وأنا منهم على كل الجهات ما دامت لم تثبت عمالتها لعدو أمتنا أو ثوابتنا، إلا أن هناك دائما حلقة مفرغة ينفذ منها شياطين الإنس فيوسوسون بما هم أهله، فترى من كانت تسبقه بشاشته إليك في السابق ينظر إليك نظرة الغل ويتهمك بما لا يتوافق مع علمك ومركزك، فتبتسم له وقد وصلتك رائحة قلبه نفس الابتسامة التي ابتسمتها لمن سبقه بنفس الاتهام السنة التي قبلها والتي قبلها، لأنه شارك أهل الفتنة هؤلاء “يوما ثقافيا من أيامهم”، يوما ثقافيا بطعم قلوبهم وملامح نفاق وجوههم.
كنت أريد أن أفتح قوسا عن ختام مثل هذه “النشاطات الثقافية” التي يختمها أحد القائمين عليها بمراسيم تزويج بعض أشباه المثقفين على بعض بنات مذهبه زواج متعة بشكل مقزز ووفق طقوس في غاية “البهيمية الفقهية” لكني تراجعت.
-انتهى-