حوار مع الشاعر المغربي محمد علي الرباوي – عبد اللطيف الوراري

0
1463

 

لا يمكن لقراء الشعر المغربي ألا يتوقفوا عند منجز محمد علي الرباوي ومساهمته في تحديث الشعر المغربي. ظهرت أولى قصائده في بحر السبعينيات من القرن المنصرم، حيث علا الشعار الإيديولوجي واصطخب الشعراء الذين كان معظمهم يعيشون في مدينة أسستها السياسة، وكان هو كما يقول: «يبحث في أمورٍ لا علاقة لها بما تريده هذه المدينة». ورغم صلته بالتراث العربي، إلا أنه تأثر بالشعر الفرنسي خاصة. وهو لا يكتب الشعر الرومانسي ولا الصوفي، وإنما يكتب الشعر الوجداني في علاقته بالحضارة الإسلامية، ويكتب الشعر الروحي في علاقته بهذه الحضارة نفسها. وأهم الملامح التي تشكل منها شعره جاءت من مصدرين اثنين ذاتي وموضوعي؛ فالذاتي شكلته تربيته الصحراوية، والموضوعي تأتّى من قراءاتي المتنوعة من القديم والحديث، ومن الشرق والغرب.

في هذا الحوار، يتحدث الرباوي عن الأدب الإسلامي، واستدعاء القناع وصلته بالسيرة الشعرية، وعن خاصية الإيقاع في الشعر وطقوس الكتابة.

■  في نظرك، هل يصحُّ أن نتحدث عن شعر إسلامي وغير إسلامي في ظلّ رقعة جغرافية مشتركة ومناخ ثقافي متآزر وآخذ في التنوُّع؟

□  لا.. أغلب ما نكتب من أدب في ظل رقعة جغرافية مشتركة، ومناخ ثقافي متآزر، وآخذ في التنوع هو أدب حضاري. لكن بعضَنا أنتج أدبا حرص فيه على رفض الانتساب إلى حضارتنا. هذا التنوع الفكري والثقافي يخدم هذا الأدب الذي ندعو إليه ويقويه. نحن في رقعتنا الواسعة نتمنى أن نكتب جميعا أدبا «إسلاميا»؛ أي أدبا تُمليه فطرة الأديب. ولهذا أجد هذا الأدب في كثير مما كتبناه بالعربية، أو بالأمازيغية، أو بالكردية، وبالأوردية أو باللغات العالمية. صحيح وددتُ لو استعملنا صفة أخرى بدل صفة «إسلامي»؛ لأن هذه الصفة جعلت المتلقي يلتبس عليه الأمر؛ فيتصور أن ثمة أدبا صادرا عن مسلم، وأدبا صادرا عن كافر ينتميان معا إلى رقعة ثقافية واحدة. ونحن لا نرى هذا. الغريب أن هذا المتلقي قبل هذه الصفة حين يتعلق الأمر بالفن، أو بالعمارة مثلا. لا شك أنك تتفق معي على أن هناك معمارا غربيا، ومعمارا إسلاميا. لو وضعتُ أمامك صورتين: واحدة تمثل باريس من خلال شارع شانزليزيه، وأخرى تمثل الرباط من خلال شارع محمد الخامس. ونفترض أنك لم تر المدينتين من قبل، ولم تعرفهما، ويكون السؤال: ما الصورة التي جاء معمارها إسلاميا؟ فإنك ستحدق في الصورتين، وستختار الرباط، لتقول لي: هذه مدينة بمعمار إسلامي. علما أن بنايات شارع محمد الخامس أبدعها مهندسون فرنسيون، لكنهم مزجوا المعمار الفرنسي بالمعمار الإسلامي، بخلاف قلب مدينة الدار البيضاء التي استلهم مهندسوها الروح الغربية في معمارها. لو دخلنا فاس العتيقة سنكتشف روح المعمار الإسلامي. وحين نحدق في بناية ما لا نهتم بِدِينِ من خطط لها وبناها. ولهذا حين يأتي إلينا السائح الغربي ونأخذه إلى حمرية في مكناس، أو إلى قلب الدار البيضاء، فإنه سيقول: هذه بضاعتنا تركناها وراء البحر. فتراه يُسرع الخطا إلى المدن العتيقة؛ لأنه، من خلالها، يشعر بأنه فعلا انتقل من حضارة إلى أخرى. هذا الذي قلته عن المعمار، ينبغي أن ينطبق على الأدب. ينبغي للغربيِّ، حين يقرأ ما أكتب، أن يشعر بأنه انتقل من حضارة إلى أخرى.

■  في قصائدك أخذت تستخدم تقنية القناع، بحيث انفتحت -عبر آلية التناص- على رموز دينية من القرآن الكريم وقصصه، ومن السيرة النبوية، وعلى شخصيات من التاريخ العربي والإسلامي إلى حدّ أن كشفت لقارئ شعرك عن مصدر كتابي ثرّ ومنسي نوعا ما. ما الذي قادك إلى هذه التقنية، وإلى البحث عن الرُّموز البديلة في التراث العربي الإسلامي؟

□  قبل أن أنتبه إلى تقنية القناع، كان الشعر عندي تعبيرا عن الذات. من غير أن يكون لهذا التعبير أبعاد إنسانية. كانت القصيدةُ لا تتجاوز ذاتي إلى الآخر. لكن صلاح عبد الصبور خاصة، نبهني، من خلال شعره، إلى أهمية هذا القناع. الحلاج، وبِشْر الحافي والسندباد.. الخ، كلها أقنعةٌ تحدث الشاعرُ عن نفسه من خلالها، وأعطى هذا الشعرَ بعدا إنسانيا، حيث يجد كلُّ قارئ ذاته في النص.

أول قناع استعرته كان قناعَ عنترة، متأثرا في هذه الاستعارة بالأحداث السياسية الأفريقية أواخر سنوات الستين، ومطلع السبعين، في ظل الحرب الباردة، وبالثقافة الفنية، والأدبية، وذلك من خلال فيلم Les Anges aux poings serrés (1967) للممثل سيدني بوتييه (20/2/1927)، يتناول المخرج من خلاله التمييز العنصري، ومن خلال قصيدة أمل دنقل «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» إن لم تخني الذاكرة. كان هذا في مرحلة التقليد. لكن مع مرحلة الوعي، تعددت الأقنعةُ وتنوعت، وأخفيت وجهي الشاحبَ، لأضع ملامحها عليه. كان التركيز أولا على الأقنعة الدينية، ومن خلالها، عبرتُ عن القلق الذي كان يسكنني. ثم استعنتُ بأقنعة من التاريخ، حين تعلق الأمر، في الغالب، بالكتابة عن واقع أمتنا. ثم تسللتْ إليَّ أقنعة كونية. حاولتُ بإصرار تجنب السقوط في أسلوب السياب، رحمه الله، حيث كان يُصرح باسم القناع، فيحدث فجوة بينه وبين المتلقي العربي، حين يتعلق الأمر بقناع إغريقي خاصة. كنت وما زلت أخفي اسم القناع في النص، لكني أسمح ببعض علاماته بأن تتسلل في شرايين القصيدة وتنمو مع نموها. لأضمن أن يبقى القارئ مشدودا إليَّ سواء أَعَلِمَ بوجود هذا القناع في النص أم لم يعلم. لا أفكر في القناع، أو في طبيعته، حين تنفجر القصيدة في أعماقي، وإنما القناع يتولد مع التجربة في صلب النص.

■  إلى أيّ مدى أثر هذا الاستخدام الرمزي للأقنعة الدينية على لغتك ورؤيتك للعالم، وعلى أن يطبع التجربة الشعرية ككلّ بالسمت العرفاني؟

□  الأقنعة الدينية ساهمت في جعل اللغة الشعرية نابعة من القلب. والدين يخفف من ثقل الفكر في الشعر ويجعل الشعر حتى إن عبر عن تصورات فكرية شعرا يقطر ماء.

■  هل يمكن القول إنّ استخدام تقنية القناع أتاح لك ـ فنّيّا ـ أن تستعيد شذرات من ماضيك الشخصي وسيرتك الذاتية، مثلما الشأن مع قناع السندباد في عملك «من مكابدات السندباد المغربي»، أو مع المكان الأصلي في «قمر أسْرير» (2002)؟ وبالتالي، كيف زاوجت بين الشعري والسردي بشكل لا يُفقد النص شعريَّته؟ ثم بين الشخصي واللا شخصي بشكل يعيد كتابة سيرتك الذاتية من جديد؟

□  نعم، أتاح لي القناع أن أستعيد شذراتٍ من الماضي، وأن أُعَبِّرَ عن سيرتي من خلاله. أنا من أسرة فقيرة. وُلدت في قصر أسرير، ثم سكنت سيدي قاسم، ثم وهران، ثم الرباط، ثم مشرع حمادي، ثم العيون، فوجدة، ثم مكناس، والآن إفران. فأنا دائمُ السفر؛ ولهذا لا أجدني حاضرا في وجدة؛ لأن حنيني دائما لمسقط رأسي، ولسيدي قاسم التي شهدت هَبَلِي، وفتحت عيني على الطبيعة الجميلة. هذا التَّرحال جعل السندبادَ يتسلل إليَّ في كثير من القصائد، يضاف إلى هذا أنني أعتبر السندباد رمزا صوفيا، وبهذه الصوفية يختلف عن «عوليس»، ولهذا عَبَّرْتُ من خلاله، على سيرتي الحياتة، والروحية. والدي، كان كثير الترحال ككل رجال «قصر أسرير». لهذا لم أَشْبَعْ منه؛ لأنه حين يعود إلينا، نراه يجمع حقائبه للعودة إلى السفر.

■  بصفتك أحد أساتذة علم العروض العربي الذي درسوه في الجامعة بقدر ما أخلصوا له في نصوصهم الشعرية. ماذا بقي من الدراسة العروضية في نقد الشعر؟ وهل مثّل صعود قصيدة النثر وميل الشعراء الجدد إليها عزوفا عن العروض بشكل أفقر أطر النص الإيقاعية؟

□  أساء إلى مادة العروض تقديمُها للطالب على أنها علم. ولهذا كان الطالب ينفر منها، في حين ينبغي أن تُقدم له باعتبارها فنا، قبل أن تكون علما. وهذا ما وعته الذائقة الشعرية في القديم، حيث كان يُنصح للشاعر، قبل أن يخطو خطواته الأولى، أن يحفظ «ألف» بيت من الشعر، ولم يُنصح له أن يقرأ ميزان الذهب. اليوم هذا المبتدئُ يبدأ خطواتِه بالميزان، فتضيع خطواته، وتتوه. فيكره هذا الميزان الذي يعرقل سيره. العروض بريء مما تَكَوَّنَ من أحكام عنه عند المهتمين بالشعر. والشعر شعرٌ إما جاء ملفوفا بتفاعيل العروض المنضبطة، أو بتفاعيل غير منضبطة (قصيدة النثر). شعريتُه تتحقق إذا كان الشاعر يملك طاقة شعرية متوهجة. لكن الشاعر يحتاج في تقديري إلى معرفة العَروض. فقد تدعوه تجربته التي يريد أن يعبر عنها شعرا إلى هذا العروضِ، سواء في شكله التراثي أم في شكله الحديث. وقد تدعوه التجربة إلى التحرر من انتظام التفاعيل على نسق ثابت. المهم أن تنسجم التجربةُ والشكل الإيقاعي المختار. ولاشك، أنك لاحظت في ممارستي الشعرية، وجودَ نصوصٍ خاضعة للتقاليد العروضية القديمة، وأخرى خاضعة للتقاليد الجديدة، وأخرى تجمع النمطين في النص الواحد. المهم أن النمط الإيقاعي لا نستدعيه؛ لأننا نناصره. بل نستدعيه؛ لأنه جزء من التجربة، أو لأن التجربة بحاجة إليه. مع الأسف، رَبَطَ النقدُ العربي هذه الأشكال بالإيديولوجية. فَمَنْ يكتب ما يسمي بالقصيدة العمودية رجعيٌّ، وفي مرحلة مَن كتب ما يسمي بشعر التفعيلة تقدميٌّ، واليوم التحق هذا الشعر بالرجعية؛ لِتُعطى الأهميةُ لقصيدة النثر باعتبارها الوجهَ الحقيقي للحداثة الشعرية. في حين أن الأمر مختلف في الممارسة الغربية، فقد تجد في الديوان الواحدِ قصائدَ تقوم النظم المنتظم، وإلى جانبها قصائد تقوم على النظم الحر؟ بل الحداثة الشعرية تأسست في النظم العروضي أولا. فأزهار الألم Les fleurs du mal لبودلير أكثر شهرة من Spleen de Paris

إن القصيدة الحرة حين أطلت علينا مع نازك وزملائها، أعطت الشعرَ العربي إضافاتٍ ساهمت في الدخول إلى الشعر الدرامي خاصة، وحين وَفَدَتْ علينا قصيدةُ النثر بنماذجها الجيدة، أغنت تجربتنا الشعرية العربية.

■ هل لك طقوس وحالات مخصوصة في كتابة القصيدة؟ وهل تعود إليها من أجل تنقيحها وإعادة كتابتها؟

□  في بداياتي، لم تكن لي طقوسٌ مخصوصة للكتابة؛ كنتُ في الغالب، أستدعي النصَّ. وحين يأتي أُدَوِّنُهُ، ولا أعود إليه بالتنقيح. كنتُ أشعر بالسعادة، وبالنشوة حين تأتيني القصيدة، وأنتشي أكثر حين أفرغ من كتاباتها. بعد هذه البدايات، جاءت مرحلة ثانية، أصبحتُ خلالها، لا أطلب الشعرَ، ولكنه هو من يطلبني. وقد تبدأ حالةُ الكتابة بالتوتر، وبالقلق، فقد أغضب خلالها لأبسط الأشياء، فأجدني أبحثُ لي عن مكان هادئ حين تحضر الولادة. هذا المكان الهادئ قد يكون الطريق، أو الفضاء العمومي، حيث يكون الضجيج.

هذا الضجيح تلمسه أذناي، ثم في لحظة ما لا تقوى أذناي على التقاط الأصوات، وهذا معناه أني دخلت في غيبوبة لا أعرف متى تنتهي. حين أستيقظ تكون القصيدة قد تَمَّتْ، ويكون الضجيج عاد إلى طبلتي أذني. قد أعود أحيانا إلى النص فأغير هذه الكلمة، أو تلك. مع سنوات الثمانينيات إلى الآن، بقيت الطقوسُ نفسها، لكن الجديد أن النص أصبح يُتعبني بعد كتابته، إذ أبقى أقرأه بصوت عال، فأغير ما يبدو لي أنه من الضروري أن أغيره، وقد يبقى النص على هذه الحال أياما، أو شهورا. وحين أشعر عند قراءته بالملل، أدرك أنه قد استوى. وقد أختبر هذا الاستواء بإطلاع أصدقائي عليه (الأمراني بنعمارة والطاهر دحاني خاصة)، وبهذا اكتشفتُ أن الكتابة أصبحت تؤثر في الأعصاب. والآن، وأنا في هذا العمر، أصبحت لا أستجيب للخاطر الشعري حين يفد عليّ، لا أستجيب إلا إذا ألح عليّ إلحاحا.

■  ماذا علّمك شرط الصحراء؟ وماذا تريد أن تتعلّمه من إقامتك الجديدة في أعالي إفران المقرورة؟

□  الصحراء علمتني التأمل في ذاتي في علاقتها بالذات، أو في علاقتها بالحـــــياة. في إفـــران تعلمت التأمل في ما أمرتني به الصحراء، لكن أضافتْ شيئا آخر وهو التأمـــــل في الذات في علاقتها بالغيب.

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here